Zenko Magazine
​مستشفى الجامعة الأردنية محطة ترجمة الأحلام لواقعها الجميل

الذكريات في هذا الموقع العريق تبعث على الفخر والتفاؤل خصوصاً أن سجل الأحداث ينقلني في السنوات المتتابعة إلى الأجمل والأحلى ويضيء طريق الأمل والنجاح إلى درجات السلم العليا والتي بها يتنفس الناجح الهواء النقي. 

 

وشريط الذكريات من بداية المشوار غني بالأحداث ولا يمكن لكاتب أن يختصر الزمن وأحداثه بمقالة أو حتى كتاب، ولكن للمبدع الذي يتمتع بسقف غير محدد الطموح بأن يجتهد أحيانا في سرد قصة أو سلسلة من الأحداث ويربطها لتكون عبرة لمجتهد آخر، يضيف إليها ما يفيد، ويتجنب السلبيات التي يرى، لتكون قصة نجاح أخرى وبشكل آخر، وعليه سأجتهد بواقع حلقة ومحطة من مسلسل حياتي الذي يغدق بالفائدة والحكمة كما أرى، حدوده السنوات الطويلة من العمر التي نقلتني من مرحلة الطالب المجتهد إلى مرحلة المدرس المبدع حيث غادرت مدينة الحصن المحبوبة الى القاهرة لدراسة الطب سنة 1977 ،حلم بدأت أحداثة بالمرحلة الابتدائية بذكرى سجلت تحولاً جذرياً على أمنيات التحدي عندما سألني أحد الأساتذة وأنا بمستوى الصف الرابع الابتدائي عن المهنة التي أريد في المستقبل، فلم أتردد بسرعة الجواب «طبيب» وهي شتلة زرع طموحها شقيقي الأكبر كريم الذي مثل القدوة الأبهى للعائلة فترجم أمنيته بدخول كلية الطب بطريق صخري غير معبد، وهو الطريق الذي سلكه شقيقي أكرم وأنا بنفس الكلية ولكن بظروف ميسرة، حيث هممت بالسفر للقاهرة لتحقيق أمنية وترجمة حلم لواقع بدعم من الوالدين بالرغم من ضيق ذات اليد وتنكر المتبرعين بالمساعدة بنصائح كانت كفيلة لارتداء ثوب روتين يقزم الابداع.

 
كان المرور من شارع الجامعة في العاصمة إجباريا للوصول إلى المطار في منطقة ماركا بواسطة واسطة نقل مستأجرة «سيارة سكارسا» ، والتفت بعفوية الشاب ذي الثمانية عشر ربيعاً الى صرح طبي يشمخ بكبرياء فوق قمة جبلية خضراء حيث طبع أمنية في الذاكرة فتمنى أن يعود ويعمل به، وبعد مرور سنوات الدراسة للحصول على الشهادة الجامعية الاولى وهي بوابة الدخول الى عالم العمل والانتاج، عدت للوطن وانهيت سنتي خدمة العلم وبعدها جلست حائراً ماذا سأفعل؟
 
 
وبينما أقلب صفحات الذاكرة فتذكرت أمنيتي بالعمل في مستشفى الجامعة الاردنية، حيث نزل اعلان روتيني في ذلك الوقت في الصحف يطلب مقيمين للعمل بالمستشفى بالاقسام المختلفة، واعتقدت أن الامر سيكون سهلاً لان جميع الشروط المطلوبة بالاعلان متوفرة عندي من امتيازات وشهادات، فالعفوية والسيقة مسيطرة على رد الفعل الفوري وتقفز في مقدمة التفكير ولكن هذا الامل عند الفلاح الوافد للمدينة والمجرد من الدعم العشائري أو الوجاهة الوظيفية للعائلة اصطدم بالواقع المرير من تفكير سطحي بمنطق المؤهل لواقع أبعد عن المنال، لان ترتيب امور البدء بالاقامة له مواصفات اخرى أفتقد ثالوثها المؤلم وان الاعلان عن الوظائف في ذلك الوقت هو مجرد أمر روتيني يقتضيه نظام التعيين، وغالباً ما تكون الوظائف محجوزة لاشخاص لديهم مواصفات اخرى لم تذكر بالاعلان، وهي مواصفات غير متوفرة عندي في ذلك الوقت، فتقودني صفحات الذاكرة المؤلمة لحيثيات يوم المقابلة الروتينية للاختيار وطبيعة الاسئلة والطروحات غير المبررة بوضع عراقيل المستحيل وسط غابة سحرية مغلقة؛ تجفف الحماس، تسجن الاجتهاد، تعاقب الطموح، تحاصر الابتكار، وتمنع التفكير والكثير.
 
 
لم يحالفني الحظ بالقبول وهو أمر أكد قناعتي بعد المقابلة المشهورة التي ابتعدت عن العلم والمستقبل وانحصرت بظروف البعد والسكن على طريق الشوك والحفر وسط عروض موازية لتبديل ظلال المستقبل حيث اختصرت الجواب بلا دون أسف، ولكنني لم أيأس فالعنيد وصاحب الحق والقناعة بعد الاطلاع على ظروف المنافسين ايقنتني بانني الأولى بالوظيفة، فطرقت باب المستشفى وادارته لاكثر من مرة اسبوعيا لعلي اسمع تفسيراً مقنعاً بعدم اختياري أو وصول ملحق بالدفعة الثانية وعندها انطبعت في ذاكرتي حتى الان صورة هؤلاء الذين شككوا بقدراتي العقلية وعدم يأسي عند اجابتهم لسؤالي الروتيني ان كنت حظيت بالقبول حتى جاء جواب هذا السؤال من الموظفة المسؤولة بابتسامة صفراء مغلفة بجدار من السخرية متأخراً بعض الشيء أن من قبلوا قد بدأوا العمل وما عليك الا الانتظار لعام آخر أو القبول بوظيفة اخرى أو الرحيل الى غير هذا المكان وكفى حضورا ومراجعة، وأدعي لنفسي أنني صاحب ارادة لا تقهر ولا تضعف، محارب طول الوقت حتى اليوم وبعد دراسة مختلف جوانب الامور، عرفت الطريق الذي يؤهلني لنيل حقوقي وسلكته ، متسلحاً بسرعة البديهة ولسان سليط تسبب بجروح نازفة عبر مراحل الحياة، لا يخاف أو يهاب حتى حصلت على حقوقي كاملة بالبدء بالاقامة في قسم النسائية والتوليد والدراسات العليا في الجامعة الاردنية بالسنة الجامعية 1988.
 
 
البداية كانت صعبة، واسلوب الدراسة والعمل مختلف تماماً عن دراستي وممارستي السابقة، هذا في المستشفى وأما الحياة في العاصمة لوافد جديد لا يعرف سوى شارع الجامعة فهناك طقوس أخرى ومعاناة بشكل مختلف وهو الكفيل بتصعيب الامور وتعقيدها ولكن سرعان ما تذللت الصعاب في كل اتجاه حتى أضحى همي الوحيد أن اثبت للجميع انني على قدر المسؤولية وحسن الاختيار، وان قدر أبناء الفلاحين والقرى ضمن فئة المجتهدين هو الصراع لاثبات الوجود فتترجم ذلك المشوار الطويل بتخريجي من كلية الدراسات العليا بشهادة الاختصاص العالي في أمراض النسائية والتوليد وحصولي بعدها على شهادة البورد الاردني في هذا المجال.
 
 
ولكن ذلك كان مجرد الخطوة الاولى لتحقيق حلمي منذ طفولتي بأن أصبح مدرساً بالجامعة وهي المهنة الارقى، سلاح الديمومة والمواظبة على الجديد لتبدأ مرحلة جديدة في جميع معطياتها، مرحلة يختلط فيها التحدي مع الواقع، وربما منظار ذلك أن سقف الطموح يحتاج لمواصفات بنائية دقيقة، والدخول في تفاصيلها قد يجرح فربما مجرد الحلم فيها مع الذات يصنف الشخص بحاجته لرعاية سلوكية مكثفة قبل توطنها وتحولها لحالة مزمنة.
 
 
وبدأت المرحلة العمرية الوظيفية فكانت البداية من جديد صعبة صعبة، ظروفها أكثر تعقيدا خصوصا من جيش المتربصين أصحاب مبادرات التعقيد والنكش، ولكنني على اطلاع ومعرفة وانتظرت حوالي ستة شهور حتى نزل اعلان الوظيفة التي استحقها لأبدأ بالبحث عن قبول جامعي بأحد المستشفيات المتقدمة للتخصص الدقيق بجراحة الاورام السرطانية، حلم جديد في مشواري فرضته ظروف العمل والتخصص بعد ملاحظات مؤلمة بالمعرفة والبرهان، ولقد صرفت سنوات ثلاث من عمري حتى حصلت على قبول من جامعة سدني باستراليا، وذهبت الى هناك موفداً من قبل الجامعة بعد ولادة متعثرة في سلسلة الموافقات الادارية نتيجة قرارات فردية كانت كفيلة بتغير ظروف المستقبل دون سند قانوني وبواحد من أرقى مراكز التخصص العالمية، وبرفقة زوجتي وطفلتي فرح التي بلغت سنة واحدة من العمر في ذلك الوقت، وهناك كان الامتحان الحقيقي في كل مجال؛ الغربة والعلم والعمل والحياة في مجتمع جديد مختلف تماما، حتى انهيت مهمتي بالحصول على شهادة الاختصاص الدقيق في الموعد المحدد بعد أن عملت سنتين كاملتين وشهوراً ثلاثة، ببرنامج حياتي على حساب أفراد الأسرة والصحة الشخصية، فواصلت العمل لساعات الليل والنهار وعلى مدار الاسبوع، تتلمذت بإشراف جراح استرالي الجنسية فرنسي الأصل، عملاق وعلامة جراحية بكل الأوصاف والمعاني فاكتسبت من المهارات الجراحية التي تكفل الانفراد بالتميز وهي نتيجة خبرات غير موثقة بصفحات الكتب ويصعب اتقانها بغير ممارسة ممنهجة، وجميعها قناديل السعادة التي تبشرني للعودة للوطن لأحضان الجامعة الأم لأمارس الاختصاص داخل مستشفاها والذي من أسمه نصيب الانتماء لاشارك مع زملاء آخرين بخدمة مرضى الوطن جزء منهم درسني وعلمني وله فضل ودين وجزء منهم زاملني أيام الاقامة، ولكننا نعمل بيد واحدة من أجل بناء هذا المستشفى الذي قدره أن يتلقى الصدمات تارة من الذين تمنوا أن يكونوا جزءاً منه، وتارة اخرى من الذين فشلوا أثناء عملهم له، أو من هؤلاء الذين يصغرون الى درجة الانقراض اذا لم يُجَرّحوا بانجازات الكبار، ولكنني اعتقد أن هذا المستشفى سيكبر ويتقدم لان البنيان يتم على ايدي فئة مخلصة من أبناء الوطن، يقدرون بكل عرفان أهمية هذا الصرح الطبي والذي يقود مسيرة التقدم والسمعة الطيبة المميزة ليس في الاردن وحده بل في المنطقة بأسرها والجميع يعلم أن الحرب لهدم هذا الصرح الطبي هي حرب فاشلة، ساعدتهم ظروف وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعت منهم أبطال كومبارس لمشهد تمثيلي وقودا لسعادة آخرين.
 
 
صورة مطابقة لمصير الذين يخططون لها ويغذونها ولنا الفخر في هذا المستشفى العريق اننا نزف للوطن في كل عام كوكبة من الخريجين الجدد والاختصاصيين الذين ينخرطون في البناء والعمل باخلاص، والمبدعين بالبحث العلمي ويتعدى ذلك حدود الوطن الى الدول الشقيقة بابنائها الخريجين من صرحنا هذا وهم على يقين أنهم مسلحون باحدث ما توصل اليه الطب الحديث.
 
 
انني ارى نفسي في هذا المستشفى بصفتي واحداً من أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الطب وقد نذرت نفسي بأن أكون مخلصاً كما وعدت، خصوصاً أن مسيرة المستشفى والتطور الذي نلمسه ضمن الامكانيات المتوفرة، ستكون عاملاً مساعداُ آخر للمشاركة بالبنيان والتقدم لقهر المترصدين لهذا الصرح العملاق، وما المؤامرة الضالمة التي تبنتها شرذمة من محدودي الطموح والرؤية إلا وسامٌ آخر على صدري بعد البراءة المتكررة من المحكمة عندما قال القضاء كلمة الحسم ليعلن هزيمة هؤلاء الأقزام ولي في مستقبلهم القادم دور وموعد فسيجلسون على كرسي الاعتراف عراة بعد الخثرة التي قتلت مبادئهم، لائتنان جفف أخلاقهم وظمائرهم فهم قد صغروا بعد أن أصبحوا عراة ويكفي القول بأن مستشفى الجامعة الأردنية قد مثل محطة ترجمة الأحلام لواقعها الجميل وللحديث بقية.
 
 
نقلا عن صحيفة الرأي 14-09-2018
 
 
2018/09/16