وما زلت اذكر ذلك اليوم واظنه كان الخميس 21-3-1968 كنا بغرفة الصف في مدرسة الرازي الاعدادية في الزرقاء وجاء من يعلن ان علينا ان نعود الى بيوتنا بعد ان تعرض غور الاردن في اكثر من نقطة منه من شماله الى جنوبه للاجتياح الغاشم معركة دامت طيلة النهار وحتى الليل منظران لا انساهما ابدا من ذلك اليوم ثمة من كان يحفر الخنادق في ساحة بالقرب من مركز شباب الزرقاء وثمة من يتدرب على المشية العسكرية بعد صرخات معتدل مارش في ملعب ثانوية الزرقاء المحاذية لقصر شبيب ينتهي النهار ويبدا الليل وكنا من سطح منزلنا المكون من طابق واحد في شارع الملك حسين في الزرقاء نرى اقراص التنوير التي كان يطلقها الغزاة للملمة فلولهم بمنطقة الكرامة في الاغوار كميات من تلك الاقراص و خطاب ملكي سامي من الحسين رحمه الله يرفض فيه وقف اطلاق النار قبل ان يغادر اخر جندي منهم شرق النهر لغربه وقف اطلاق النار الذي لم نعتد ولم يعتد اي عربي ان يتم طلبه من الجيش الذي بات بعد حزيران ٦٧ يسمى بالجيش الذي لا يقهر لكن ارادة المقاومة كانت هنا ولاحت تباشير الاصرار عليها و تجسدت نصرا مدويا في الكرامة اعترف به العدو وربما اهمله الاخ والصديق نصر جاء بعد زهاء تسعة اشهر من نكسة حزيران و بعد ٣٣ يوما من استشهاد الرائد منصور كريشان قائد الكتيبة المجاهدة كتيبة الحسين الثانية وهي كتيبة مشاة والتي دافعت ما استطاعت اليه سبيلا عن القدس في حزيران كتيبة شقيقة للكتيبة التي قضى والدي رحمه الله جل خدمته العسكرية بها ( كتيبة الامام علي الثامنة) .. مرت الايام بعد ذلك واعتدنا لفترة ان نحضر استعراضات الكرامة كل عام نشد الرحال اليها من الزرقاء الى عمان حيث كلية الشهيد فيصل مكان اقامة المعرض الذي عرضت به مصفحات ودبابات الغزاة التي تركها مرغما في ارض المعركة ومنها دبابة كنت عليها بطاقة تعريفية تقول انها من طراز سنتوريون انجليزية الصنع كانت ضمن الاليات المدرعة التي اجتاحت الغور الاردني الوادع حتى اصطادها احد نشامى الجيش المصطفوي يوم الكرامة وتختتم بطاقتها التعريفية بجملة لم ولن انساها تقول انها باتت الان تصطاد زميلاتها غرب النهر .. قبل اسابيع قليلة اختتم لدينا مؤتمر علمي دولي في رحاب كلية العلوم في الجامعة الاردنية حضره عدد من الاخوة من اعضاء هيئة التدريس في الجامعات الليبية اضافة لزملاء من احد عشر بلد عربي وبضعة دول اوروبية اصطحبتهم بشكل عفوي الى النصب التذكاري المهيب الذي اقامته الجامعة الاردنية بحرمها شرحت لهم ما تيسر اخبرتهم عن متابعتي يافعا للادبيات العسكرية الصادرة عن التوجيه المعنوي للجيش العربي المصطفوي شرحت لهم فكرة وحقيقة ما يسميه الجيش اصطلاحا "رماية تخليص الارواح" عندما يطلب الضابط الاردني الشاب خضر شكري من المدفعية الاردنية ان تقصف مواقعهم التي اجتاحتها جحافل الاعداء بعد ان اجتازت بخسائر كبيرة كمائن قوات الحجاب التي كان هدفها اعاقة المحتلين قبل التوغل شرق النهر ست وثمانون شهيدا من الجيش الاردني ذلك اليوم وعدد بلغ العشرات من رجال المقاومة مقابل عدد ربما بلغ المئات من المحتلين الذين اعتقدوا ان اجتياز النهر نزهة لهم ففوجئوا بما لم يسر لهم اي بال لا بل بما كان عليهم وبالا اعترفوا به قبل غيرهم، احد الاخوة الليبين ممن اذهلهم سماع اخبار معركة الكرامة اذهلني عندما قال مستغربا هذه اول مرة اسمع بها بما سمعت اليوم عن معركة الكرامة لم اسمع بها من قبل ! .. اترك الحديث للاعلام الوطني للتحفيز واترحم منحنيا على ارواح كل الشهداء.
(*) ا.د. نجيب ابو كركي / استاذ الجيوفيزياء وعلم الزلازل - عميد كلية العلوم - الجامعة الاردنية.