أؤمن أن على الكاتب ألاّ يعرّف على نفسه بما كتب وألّف ونشر من كتب. الكاتب لا يُدرك ولا يُعرف إلا بما قرأ ويقرأ. فكل كتابة بعيدة عن القراءة لا يعوّل عليها، ولن تحدث فرقاً بدروب العالم ومتونه. وبعد مسيرة كتابة شاقة، وولادة أكثر من أربعة عشر كتاباً، سيبقى أحب ما أعرّفُ به نفسي: أنا قارئ.
أقرأ الكتب وأندغم برائحتها وأمتص لذاذاتها، حتى الإكترونية منها. وأقرأ الوجوه النابتة في زقاق الحياة، والصخور الطالعة من خواصر الجبال، وأقرأ الزهور المرهونة لذبول على الباب، ورقرقة نهر يتلاشى في خضرة البساتين. أقرأ عطر وردة بحجر، وضحكة طفل يكتشف وجهه في المرآة، وما زلت مشغولاً بقراءة خطوط جباه المتعبين، ومعاني الأمومة في وهن أمهات جميلات وقورات.
إنثالت علي هذه الأفكار بعد اتصال من مكتبة عبدالحميد شومان يخبرني بفوزي بجائزة أكثر القراء استعارة لكتب مكتبتهم. وهي جائزة لم أعرف عنها، ولم أتقدم لها، ولم يعلن عنها أصلاً، لكنها بدت كحركة جميلة من إدارة المكتبة إعلاءً من شأن القراءة في عالم غدت فيه من ندرة الندرة.
سرتني الجائزة البسيطة أكثر من سبع جوائز عالمية وعربية ومحلية نلتها بمسيرتي الأدبية والصحفية، لأنها عزفت على وتر أحب نغمته، وأعشق تقاسيمه، وهو أنني قارئ في البدء والمنتهى، وأن الكتابة ليست إلا هامشاً على هامش حيواتي.
أتذكرني طفلاً في العاشرة حينما زار مركز شباب كفرنجة مدير شباب إربد، وسألنا عن مطالبنا، فأردت يومها مكتبة. وبالفعل صار لدينا خزانة بزجاج جرار، أجهزت على جل كتبها ومجلاتها في سنة.
بعدها اندغمت بمكتبة مدرستي الإعدادية ذات الخزانتين في مستودع. وفي مدرستي الثانوية أصبحت الكتب حياة سرية أراودها. وفي بغداد الجامعة غدا شارع المتنبي حجي الأكبر صباح كل جمعة؛ لأتشرب فيه حياة مزاجها كتب وسعادة، وخيال، وتفتح آفاق، وبناء آمال.
بعد التخرج تزوجت مكتبة جامعة اليرموك، ومكتبة كلية مجتمع عجلون لسنوات طوال ساعدني أصدقاء وصديقات في تسهيل الاستعارة. ثم مكتبة الجامعة الأردنية، ومكتبة شومان التي لم أنقطع عن النهل من معينها طيلة عقد مضى.
لدي ثلاث مكتبات متمددة تعمر بمئات الكتب، واحدة في بيتي العماني، وفي العجلوني، والثالثة ببيت والدي، لكني مهووس بكتب المستعارة؛ لإحساسي بأنني نحلة عليها أن تجوب زهوراً كثيرة مثيرة لتتم عملها، وأن الكتاب المستعار يمنحني شعورا أن الحياة سريعة ونحن نسابق اقتناصها.
منذ العاشرة من عمري لم يحدث أن فارق الكتاب يدي، رغم مشاريعي الكتابية والصحفية والثقافية والاجتماعية والتطوعية. الكتاب يدي الثالثة، وجهي الثاني، ومرآتي التي تضاعف حياتي. وحين كانت أمي تطالبني ألا أرهق عيني بالقراءة كنت أقول: أنا أشتغل. فتبتسم متعجبة كيف هذا الشغل؟!. ولما صارت الكتابة خبزي، قلتُ لأمي: هو ذا شغلي. الكتابة بلا قراءة محض هراء.