قبل اسبوعين كنت فى زيارة للولايات المتحدة الامريكية لحضور مؤتمر علمي وشد انتباهي هذه المرة التطور السريع فى استخدام الانترنت فى مجال التعليم وادارة المؤتمرات والنقاشات العلمية، و كيف ان المحاضر حالما ينتهى من محاضرته يخبرك عن الرابط الذى يمكنك من خلاله التواصل معه او تحميل مادته العلمية التى اصبحت تسكن الفضاء ألالكتروني وغدت متاحة لمن يرغب بالإطلاع عليها ، هذا على الجانب الاكاديمي اما على جانب الحياة اليومية فأنت تعجب من المستوى الذى تغلغلت اليه الانترنت في حياة المواطن الأمريكي وكيف ساهمت فى انطلاقة ذلك البلد الكبير إلى آفاق المعرفة حتى اصبح النموذج المحتذى في الاكتشاف والتعليم و البحث العلمي.
وقتها سرحت فى خيالي عن كيفية احتضان هذه التكنولوجيا فى جامعاتنا، وكيف يمكن توفيرها لطلابنا وشبابنا كخط مباشر لتشجيع الابتكار وتحفيز المواهب ليكونوا نواة الاستثمار الحقيقي البشري، وقطعاً ما بين مسافة الأمس و اليوم، ورؤية بلد ديمقراطي عريق يتقدم وآخر يحاول النهوض والانطلاق فى مجال الاصلاح والتحول الديمقراطي ، بالأمس وأنا استمع لشرح موجز قدمه الاستاذ نافذ دقاق فى رحاب الجامعة الهاشمية عن مبادرة ادراك للتعليم الالكتروني التى اطلقتها مؤسسة الملكة رانيا العبد الله قبل عام و نصف بالتعاون مع مبادرة edX الامريكية، فوجئت بالأرقام التى تتحدث عن حجم الاقبال على التعليم الالكتروني فى البلاد العربية، وما فاجأني أكثر ليس المعروض على منصة ادراك رغم قيمته غير العادية، و مستواه المتقدم فى المونتاج و الاخراج ، وإنما الطلب الكبير على مختلف العلوم والمساقات التى يطلبها المواطن العربي لتكون بلغته العربية وباسلوب سهل وميسر.
الملاحظة الأخرى ، تأكيد العديد من القيادات الاكاديمية على ان التعليم فى السنوات الخمس القادمة سيكون مختلفا بشكل جوهري عن الاساليب التقليدية المتبعة في التعليم الجامعي ، وان التعليم الالكتروني او المدمج الذى انطلقت شرارته منذ بضعة سنوات فى الولايات المتحدة سيمتد وينتشر ليشمل معظم الانشطة الاكاديمية التى تكلست مع الزمن فى عدد كبير من الجامعات، حتى اصبحت كما يقول مارك تويني "عبارة عن مكان تنتقل فيه المعلومات من دفتر الاستاذ الى دفتر الطالب بدون ان تمر فى دماغ اي منهم!!
الكل يتحدث فى امريكا اليوم عن "الموكس" المساقات الالكترونية المجانية، التى ظهرت خلال السنوات الخمسة الماضية Massive open online education ،وعن الجامعات العريقة التى تساهم فى انتاجها ونشرها بالمجان لملايين الطلبة فى العالم، وكيف يمكن لاي شخص لدية الرغبة في التعلم وعنده اتصال بشبكة الانترنت الوصول الى هذه الكورسات المتميزة من اعرق الجامعات العالمية بسهولة ويسر وخصوصا بعد التطورات السريع فى التكنولوجيا و زيادة سرعة الانترنت.
هذا الجانب الغائب عن محيطنا الاكاديمي ومؤسساتنا البحثية والعلمية، ما يزال بعيداً عنا رغم وجود البنية التحتية غير المستثمرة بالشكل الصحيح ، وتبرع مؤسسة الملكة رانيا العبد الله بالجهد والمال فى توفير مستلزمات التعليم الالكتروني الصحيح، لكن التنافس فى سباق الظهور الاعلامي المحموم للحديث عن الانجازات الوهمية كان فاصلاً آخر في الطريق في بناء أسس التطور الصحيح، ثم تحويله إلى استثمار وطني شأن من تقدموا علينا بنهضتهم البحثية والعلمية والتكنولوجية...
المعروف عنا، حتى في اوساطنا الاكاديمية والبحثية، أن أوكازيون المؤتمرات العلمية ، وندوات الفخر والمديح الزائف والحديث عن والاطول والاعرض، والمؤسسة الاولى أو التى تاتي فى مقدمة المؤسسات والسبق العلمي وغيرها من المبالغات أو التهيؤات، التى شكلت جيل النفاق ألاجتماعي ونصف الأمي، وهذا وجه يجب أن نعترف بوجوده بيننا، ولكنه ليس النموذج الحقيقي لوجه آخر نراه ينمو بمدارسنا وجامعاتنا بجهود فردية بدون دعم و مساندة في مجال تطوير المهارات الرقمية وتنميتها، ولعل هذا التدافع بالاشتراك مع ادراك و غيرها من مواقع التعليم الالكتروني العالمية يؤكد أن وعياً عاماً بدأ يأخذ اتجاهه نحو قيمة العلم والتعلم عن طريق جديد لأبنائنا وبتشجيع عالمي ومحلي، ليعطينا التفاؤل بأننا نزرع النواة لجيل آخر سوف يذهب بنا إلى مواقع التطور والتنافس العلمي و التكنولوجي، وهذه ليست أماني لمن يؤمن أن العقل لا يحتكره عنصر أو قبيلة، أو تحالفات غير شرعية إذا ما توفرت البيئة المناسبة والمحفزة لتفجير الطاقات المبدعة في الإنسان، وساندها وعي متزامن بين الأسرة والمدرسة والجامعة في كشف تلك القدرات وتنميتها.
ما رأيته وشاهدته فى مجال التعليم الالكتروني والتعليم المدمج و الشراكات الجامعية فى هذا المجال بين اعرق الجامعات الامريكية من خلال مبادرة edX على سبيل المثال، يبشرنا بأن طريقاً جديداً ينفتح لعالم المعرفة، وأن جيلاً بدأ يأخذ المبادرة في تشكيل ذاته من خلال الاستفادة من اليات جديدة لم نكن نضعها ضمن مشروعنا العام، وإذا لم نحاول الاستثمار و الانطلاق فى هذا المجال الواعد كإستراتيجية ضرورية في نهضتنا البعيدة، فإن النتائج ستكون عكسية، وبمعيار العودة الى الوراء في سباق مع العالم المتقدم.
نقلاً عن موقع "طلبة نيوز": بتاريخ 18-10-2015