الدراسة المسحية التي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية حول توجهات طلبة البكالوريوس وأُعلِنت نتائجها الأسبوع الماضي، تضم الكثير مما هو جدير بالتأمل. ويعني كون عينة الدراسة من طلبة الأردنية، الأعرق والأعلى معايير –نظرياً- أن الدراسة استهدفت "وجه الصندوق" من قطاع شبابنا الجامعي. وعلى ذلك يمكن القياس.
إحدى النتائج الملفتة في الدراسة هي تلك المتعلقة بالقيم والاتجاهات السياسية والفكرية للطلبة. ويفترض أن تكون هذه الاتجاهات هي الأكثر تعبيراً عن نوع الشخصية الجمعية لشبابنا، وما نتوقع بناء عليها من نوعية قراراتهم واتجاهاتهم السلوكية ونظراتهم المحلية والعالمية. وإذا أفاد (66 %) من طلبة الجامعة بأنهم "لا ينتمون لأي اتجاه فكري معين"، فإن ذلك يكشف إما عن تشويش في الرؤية إلى حد عدم القدرة على تمييز فكر وتبنيه، أو عدم وجود خيارات على الإطلاق لأن الطلبة غير معرضين لمعرفة الاتجاهات الفكرية أو غير معنيين بها، أو تأخر في نمو الشخصية إلى حد تأجيل مسألة "الاتجاه الفكري" إلى مرحلة لاحقة، بحيث تظل شخصية الجامعي هلامية.
وفي موضوع السياسة، أفادت الدراسة بأن "نصف الطلبة يعتبرون أنفسهم مهتمين بها (13 % مهتم بدرجة كبيرة؛ و37 % مهتم بدرجة متوسطة)، فيما يعتبر 31 % أنفسهم ليسوا مهتمين و19 % غير مهتمين على الاطلاق". وحسب المناخات والعقليات السائدة في العقود الأخيرة، تُعتبر هذه أخباراً جيدة جداً، لأن التيار العام ظل يشد الناس بعيداً عن العناية بالسياسة أو الاشتغال بها، وخاصة شباب الجامعات. وربما وصل الأمر في هذه الشأن إلى حد تبرؤ البعض من السياسة إلى حد قول عائلة عن ابنها: "ابننا لا يدخن، ولا يشرب، وليس له في السياسة". والسبب هو أن اشتغال الطالب في السياسة كان في إحدى المراحل وصفة سريعة للتعرض للملاحقة والتضييق وربما الفصل.
لكنّ هذه النظرة، سواء كانت شعبية أو رسمية، هي وصفة الفشل الكامل، لأن الشاب الذي لا يفهم في السياسة وليست له رؤية فكرية، لا يُعول عليه في التحرك بوعي في هذا العالم المتلاطم، أو المساعدة في أي مشروع نهضوي أو إصلاحي من أي نوع. وسيكون البديل عن التحاور الفكر والجدل القائم على وعي بالفكر ومنطقه هو المشاجرات على أشياء سخيفة، كما تبيّن. ويعرف الذين عاصروا عناية الطلبة بالسياسة والفكر في العقود السابقة، أن المشاجرات لم تكن ظاهرة جامعية، وأن نوعية الطلبة في تلك الحقبة كانت مثيرة للإعجاب، من حيث امتلاء الشخصية وتأطيرها ومسؤوليتها وسلوكها. وبذلك، لا يمكن أن يكون عدم اهتمام نصف الطلبة بالسياسة أخباراً جيدة على الإطلاق. ولو عُني الطلبة بالفكر، لعرفوا أن مفهوم السياسة الأشمل ليس مقصوراً على الولاء الحزبي، وإنما يتصل بكل شأن حياتي بلا استثناء.
بهذا الخصوص، أود إعادة سرد حكاية تلخص فكرة الشباب والسياسة. وكان ذلك في الثمانينيات، عندما كانت للطلبة اتجاهات فكرية ومعرفة بالأحداث السياسية وموقف منها. وقد تظاهر بعض طلبة الأردنية حينذاك احتجاجاً على ضرب الطائرات الأميركية لليبيا. ثم وجد البعض أسماءهم موضوعة على لوحة الإعلانات، مطلوبين لمقابلة عميد كلية الآداب آنذاك، الراحل المعلم الدكتور إبراهيم غرايبة. وصادف أن اسمي كان من بين تلك الأسماء.
عندما ذهبنا لمقابلة العميد، ونحن نحسب العواقب، فوجئنا بما أدهشنا ونقش في وعينا ذكرى لا تمحى. فبدلاً من استقبالنا بالتوبيخ، استقبلنا عميدنا بالترحاب والبشاشة. وقال لنا ما أتذكر فحواه بعد كل هذه السنين.
قال أستاذنا إن استدعاءنا لا داعي له. قال إنه لا يفهم كيف يمكن أن لا يفهم الطالب الجامعي في السياسة وكيف لا يكون له رأي فيما يجري حوله وكيف لا يعبر عنه. وحدثنا عن تجربته في جامعته التي درس فيها في دولة شقيقة، وكيف أنه اهتم بالسياسة وشارك زملاءه أنشطتهم وتظاهراتهم، كمكون طبيعي للحياة الجامعية. وقال أخيراً إنه يفتخر بأن في الأردنية طلبة واعون ومهتمون. وشكرنا وصرفنا باحترام.
الآن، نصادف خريجين يجهلون تقريباً مَن وماذا يحدث في بلدهم نفسه، ناهيك عن معرفة ما طالبان وأفغانستان، وما الاشتراكية والرأسمالية، ولا حتى أن هناك حرباً في اليمن. كيف يمكن حتى أن ينتخب هؤلاء برلماناً ويشاركوا في مشروع وطني نهضوي، وأن لا يكون حكَمهم هو الشجار؟!
نقلا عن جريدة الغد ص: 17