كتبتُ قبل زمنٍ قريب عن ضرورة اعادة الحياة للعمل الاكاديمي على قاعدة العمل بروح الفريق الواحد، لأجل حياة أكاديمية يعرف كل طرف فيها واجبه ومهماته وأطر عمله، سواء أكان رئيسا ام مرؤوسا أم أستاذا ام طالبا، والجميع يجب ان يشمر عن سواعد الجد والمثابرة والمنافسة لبناء منظومة تعليمية يمتلك فيها الاستاذ روح المبادرة والتجديد والتغيير بدعم من الادارة تنعكس على الطالب علما ومعرفة وتقانة وجودة عالية. وقد احببت ان ابعث بهذه المقالة على شكل رسائل علّها تصل أصحابها؛ لأن الجميع معنيٌّ بها وبمخرجاتها:
الرسالة الاولى: اعادة الروح للعلاقة الطبيعية بين الإدارات الجامعية والأساتذة على اساس الحوار وتقبل الراي والراي الاخر على اعتبار أنهما شركاء في البناء والنجاح، وان نجاح العملية الأكاديمية برمتها مرهونة بالاعتماد على الاساتذة وقيام الإدارات الجامعية بتأمين مستلزمات الحياة الأكاديمية آمانا واستقرارا واحتراما؛ فضلا عن تأمين الوسائل التعليمية والبحثية والمادية والمعنوية التي تعطي الروح التشاركية العمل بروح وقادة ونفس مرتاحة، والادارة الجامعية الناجحة تنجح بالحوار والمبادرة والثقة بالقاعدة الأكاديمية كاملة وتتحرك معهم بالاستجابة السريعة لمتطلباتهم.
الرسالة الثانية: احياء سنة اللقاءات العلمية والاجتماعية والاحتفالية السنوية والفصلية بمزيد من الاهتمام بالعلماء من خلال اللقاءات والحوارات داخل الأقسام والكليات بين الإدارات الكبرى وأعضاء الهيئة التدريسية وإدامة الحوار الحر والمسؤول دون ان يشعر اي طرف بالملل او الاستهتار؛ لأن قواعد النجاح تبدأ بشعور الاساتذة بقيمتهم العلمية وحضورهم الصحيح في الامكنة الخاصة بهم؛ وغير ذلك لن تقوم للجامعات اي قائمة مهما حاولت الإدارات الاستعانة بالناس الخطأ، والتجارب في هذا المضمار كثيرة، وللاسف فشلت الادارات حين اعتمدت على الناس الخطأ وغدت موطن تندر في الوسط الاكاديمي كله؛ ولا أظن ان رئيسا عاقلا يقبل على نفسه ان يعيد تجربة سلفه الفاشلة؟!
الرسالة الثالثة: بث روح الشباب في الإدارات الجامعية كلها وعدم الركون للحرس القديم الذين لا يتورعون في ايذاء حتى الرؤساء أنفسهم في سبيل الحفاظ على مكاسبهم، إن بناء الجامعات والوصول الى التنافسية الدولية تحتاج اجيالا حاسوبية شابة مرنة تسمع وتقرأ وتناقش وتبحث عن كل جديد، والجامعات تغص بالكفايات الأكاديمية الشابة وهؤلاء يستحقون الثقة والمسؤولية بعيدا عن سياسة التهميش وعدم الاكتراث.
الرسالة الرابعة: الجامعات مراكز بحث وإنتاج، وهذا يستحق اهتمام صانع القرار بتسهيل انتاج المعرفة وتوفير المختبرات ومستلزماتها على المستويات العلمية كافة من الطب حتى حاسوب الاداب، لكي يقوم الجميع بواجباتهم بعيدا عن لغة ( المافيش)، وهي لغة العاجزين؛ إذ لا يجوز ان تُفتح جامعة وهي لا تملك القدرة على فتح المختبرات وتأمينها يوميا للمحاضرة والامتحان، وإلا كيف تُصنع الاجيال وتُنافس الاخر بجودة الانتاج؟!الرسالة الخامسة: ان يعرف كل واحد حجمه الطبيعي، بحيث لا يستأسد أي طرف على أخر، الكل يجب ان يشعر انه مهمٌ في البناء والعطاء، والا استمر الامر على حاله، فلا تقدم يذكر ولا تغيير يحصل، وحينها يبقى الروتين طريق الكسالى ونهجهم اليومي في كل الميادين.
الرسالة السادسة: الاستاذ والطالب معادلة واحدة اساسها الاحترام والانجاز ، الاستاذ قدوة في هندامه وعلمه ومحاضرته، والطالب في حضوره ومشاركاته ومناقشاته وأسئلته، وكلاهما لا يستغني عن الاخر، ولا يجوز ان يتذرع الاستاذ ولا الطالب بالغياب، ومع الأسف تجد بعض الاساتذة في الغياب لا أحد يتابعهم ولا حتى مجرد سؤال، ومثل هؤلاء كيف يحاسبون الطلبة على غيابهم وقلة نشاطهم؟! نحن لا نتحدث من باب التنظير؛ وإنما هو واقع الميدان وغياب المساءلة الجادة في هذا الشأن.
الواجب الاكاديمي ان يضبط الطلبة ساعاتهم على حضور الاستاذ غرفة المحاضرة طيلة الفصل، لا ان ينتظر الطلبة حضور الاستاذ؛ وكأن الاستاذ لا واجب لديه! الحياة الأكاديمية تفترض متابعة المحاضرات اليومية بشكل حثيث بحيث لا يكون عمل المسؤول مكتبيا روتينيا، ومما يؤسف له أنّ ما نراه ان اخر هم بعضهم هي المحاضرة الأكاديمية، مع انها هي الأساس، ويتندر الطلبة على أساتذتهم حين يكون الطالب هو من يقيّم، لا الاستاذ الذي يجب ان يبقى بيده مقاليد الحل والربط. وهذا يفضي الى نزوع سلبي عند بعض الاساتذة ممن يبحثون عن تضخيم شعبهم الدراسية على حساب الجودة والصرامة والحزم العلمي؛ ولذلك، الإدارات الأكاديمية مطالبة بضبط إيقاع المحاضرات والعلامات بحيث لا تكون سوق العلامات عند بعضهم اكزيون مسِف يؤدي الى تدهور العملية الأكاديمية برمتها، وهذا يتطلب وضع (سكيل) لشعب المادة الواحدة المتعددة وضبط نسب العلامات بدقة، وتحديدا صارما لعدد الطلبة في الشعبة الواحدة لكي لا تنفلت العملية من عقالها؟!
الرسالة السابعة : سؤال بريء جدا ما واجب العمداء ورؤساء الأقسام ومدراء المراكز؟ الجواب بسيط ضبط العملية الأكاديمية والإدارية ! هذا جواب سهل وروتيني لا جديد فيه يقوم به كل من يعنيهم السؤال؛ لكن هل يمتلك هؤلاء رؤية وخطة جادة لعماداتهم وأقسامهم طيلة تكليفهم؟ هل يتم محاسبتهم على تقصيرهم؟ هل هم أهل للأماكن التي يديرونها؟ هل تم اختيارهم على أساس من الكفاءة؟ هل لهم أثر وتأثير في إداراتهم وكلياتهم ومراكزهم وأقسامهم؟ أين إبداعاتهم وإنجازاتهم ؟ أين مؤلفاتهم وبحوثهم وأنشطتهم اليومية والأسبوعية والفصلية والسنوية؟ نريد جردة حساب لكل واحد منهم كي نعرف المبدع من المقصر، والحيوي الفاعل من الجالس الخامل، المشاهد يعرفها الاساتذة في الأقسام والكليات والمراكز ولو عدّدتها لن تحملها عشرات الرسائل، لكثرة عجرها وبجرها، وللأسف اسهل شيء في الادارة الحديثة تنافق، لا تعمل، لا تحاسب، لا تعاقب، تترقى، تحصل على ما تريد دون تعب. هذا نمط يسود في الادارة الحديثة ويفيد منه من يحسنون المداهنة والنفاق... .
الرسالة الثامنة: الأبواب مفتوحة أم مغلقة؟ اذكر أحد المسؤولين كان يدخل مكتبه طيلة النهار ويعمل بنهم وجد؛ لكن هل يدري ماذا يجري حوله؟ كان موظفوه يغادرون ولا يعودون طيلة العمل الا عند انتهاء وقت الدوام للتوقيع على سجل الدوام، واستمرت هذه الحال سنوات. فهل سياسة إغلاق الأبواب تجدي مع نمط الادارة الحديثة؟ وسياسة الأبواب المغلقة تعيق الإنجاز والعمل الصحيح؛ خاصة ان صاحب القرار لا يتنازل عن بعض صلاحياته، ما يسبب احيانا الارباك والتأخير في العمل، ولذا مطلوب من القيادات الأكاديمية ان تغير زاوية تفكيرها ورؤيتها، وان تفتح ابوابها وان تغير الوجوه التي تعتمد عليها وتبدلها بالاحسن؛ إذ لا يعقل ان يحدث خلافٌ بين مراجع ومسؤول، ويتغير المسؤولون ويتبدلون ولا تتغير وجوه من حولهم! والمنطق ان تفتح الأبواب وان يكون هناك ساعات مفتوحة تتيح للمسؤول ان يعرف ما لا يصله، لكي يشعر الجميع انهم مراقبون وعليهم مسؤولية وواجبات وظيفية.
الرسالة التاسعة؛ للحكومة ووزارة التعليم العالي ومجالس الأمناء، وجملتهم معنيٌّ بالرسائل السابقة، وهم يعرفون أنّ أكبر أزمة تعانيها الجامعات توفير المال لتحقيق الإنجاز العلمي، والجامعات تعاني شُح المال لتوفير الرواتب ومتطلبات الحياة العلمية، وهذا يؤثر مباشرةً على برامج الجامعات وخططها الطموحة، ولذلك الحكومة مطالبة بتأمين احتياجات الجامعات المالية، وهذا يتطلب ان تسمع الحكومة للخطة الطموحة التي أعدها وزير التعليم العالي الدكتور وجيه عويس والتي تهدف لتطوير هذا القطاع وتخليصه من ديونه وظروفه الصعبة من خلال هيكلة الرسوم على مدار عدة سنوات تصل الى إلغاء الموازي مما سينعكس إيجابيا على الوطن وجامعاته وإنسانه ، وهي خطة جادة ويجب ان تدعم من كل من يهمه اعادة الاعتبار للتعليم العالي والجامعات واذا ما كتب لها الحياة ستؤتي أكلها في الجامعات خلال السنوات القادمة خاصةً اذا لاقت آذانا صاغية لتنفيذها على مراحل تفيد منها الجامعات ماليا واكاديميا، وهذا يتطلب وعيا شعبيا لهذه الخطة؛ إذ لا يعقل ان يعارض الجميع رفع الرسوم خمسة دنانير تتم عبر سنوات الخطة فيحين اذا لم يقبل يلتحق هؤلاء بالبرنامج الموازي وحينها يدفع الطالب أضعافا مضاعفة، ولذلك هذا يحتاج الى تغيير تفكير الناس، وتغير نمط تفكير الإدارات الجامعية التي تغرق مع الأسف نهاية كل شهر في البحث عن رواتب العاملين في جامعاتها. ولا بد لمجالس الأمناء ان تقوم بدورها الصحيح في البحث عن مصادر تمويل لجامعاتها بعيدا عن التدخل في سياسات الإدارات الجامعية، ولتترك رئيس الجامعة ان ينظم سير عمل جامعته بخططه وادرته المستقلة؛ اذ لا يعقل ان تحكم الجامعة اكثر من إدارة، ورئيس الجامعة هو المسؤول الوحيد، ويتعرض للمساءلة إذا اخفق؛ فهل تترك مجالس الأمناء رؤساء الجامعات لأعمالهم دون تدخلات تبدو في احيانٍ كثيرة غير مجدية؟!
الرسالة الاخيرة: لن تستطيع الجامعات أن تنافس او تنجح او تحقق أهدافها او تحسن مواقعها في قوائم المنافسات الدولية للوصول الى قائمة اول عشر جامعات في الإقليم، او للمواقع الاولى عربيا، او ضمن اول (500) جامعة عالمية، إلا اذا قرأت كل جامعة واقعها، وحددت هدفها بعقل علمي منفتح، لتحقيق هذه الرسائل الواحدة تلو الاخرى كي تعيد الجامعات لنفسها ألقها وصورتها العلمية التي كانت الى وقت قريب الحلم الجميل لابناء الأردن وشبابه الجامعي، الأمل ان تقرأ الإدارات الجامعية سياساتها وخططها الاستراتيجية بعناية ودقة ومسؤولية، وان تفتح ابوابها وقلبها للجميع لتشريكهم في البناء والانجاز .
وبعد، أقول للمنافقين والملونين وكُتّاب المواقع إنّ البحث عن موقع في كعكة الجامعات في هذه الآونة لا يستحق ان ينافق البعض للإساءة للبعض الاخر؛ خاصة اذا كان هؤلاء الكُتّاب ممن يعدون أنفسهم من صُنَّاع كلام المواسم ، وهؤلاء يغيرون جلودهم ومواقفهم كما يبدلون ملابسهم مع كل قادم بعد ان ينقلبوا على أولياء نعمِهم ممن رحلوا بالتغيير.فهل يتعظ القادمون الجدد من نفاق بائعي الكلام؟!
وفي الختام تبقى هذه الرؤية للجامعات والتعليم العالي اجتهادا شخصيا تقرأ الواقع من الداخل، لا تبتعد عن الحقائق، ولا ترسم المستحيل؛ لأننا جميعا في مركب واحد نعلو وننجو اذا قدنا المركب بمهارة وفن واقتدار ولا نتقدم إذا استمرت الحال على سوقها؛ لأن جامعاتنا على مفترق طرق وتحتاج لمن يقرع جرس إنذارها حتى لا تغرق !
نقلا عن صحيفة الدستور بتاريخ 14/8/2016