شاءت «المجلة الثقافية - الجامعة الأردنية» في عددها الأخير أن تعالج موضوعاً غير مألوف: العلم والأدب، وأن تقاربه من وجوهه المختلفة: العلم والفن، رواية الخيال العلمي، داروين ونظرية الرواية، الخيال الأدبي والخيال العلمي. اعتمدت على مساهمات عربية، وعلى مادة مترجمة واسعة، جيدة الاختيار، منتهية إلى ما يلبي حاجة التلميذ الجميل الفضول، وفضول الناقد الأدبي والأستاذ الجامعي الذي يريد أن يعرف شيئاً عن: ماري شلي وألدوس هكسلي وجورج أورويل، وعن باحث بريطاني، كان عالماً وباحثاً في تاريخ العلم: جورج د. برنال، الذي جمع بين بحث علمي لامع وعشق للنساء.استهل العدد «بتقديم» عنوانه: إنتاج العلم وبصيرة الأدب، يربط بين الحقلين المختلفين، ويضيء التمايز القائم بينهما، إذ للأدب عمله في اللغة، وإذ للعلم ما شاء من مجالات الاختبار. فهذا الأخير يسعى إلى عالم تحرّر من غوامضه، شفّاف، أو قريب من الشفافية، لا موقع فيه للأساطير والميتافيزيقا، إلا بقدر، في مقابل إيمان العلم بترويض متصاعد لأسرار الكون والإنسان. يسأل الأدب ما لا يمكن الاطمئنان إليه، محتفظاً بأسئلة الإنسان الخالدة، التي تبدأ بزمن له «روح الخديعة»، وتمر على هشاشة الإنسان المؤسية، وتنتهي بذلك الغامض المروّع، الفاتح فمه أبداً، أي: الموت. ولهذا يتعامل العلم مع مفاهيم: الشرح والتجربة واليقين، أو «الشك الذي يرمّم شروخه لاحقاً»، على مبعدة عن الأدب الذي يدور حول اغتراب إنساني لا يمكن قياسه، ويترك الشرح الواضح لأصحابه ذاهباً إلى التأويل.إذا كان دور العلم أن يعالج «القلق الإنساني» بإجابة سعيدة، فإن اختصاص الأدب مساءلة القلق وتوسيع مساحته، منذ أن كتبت ماري شلي عملها «فرانكشتاين»، أو بروميثيوس الحديث» - 1818، التي واجهت «العلم السعيد» بكوابيس الأشباح القاتلة. فالعلم يتفاءل ولا يسير تفاؤله إلا ليقع، حال التقدّم الإنساني، الذي أخذ ذات مرة ملامح دين نهائي منتصر، وانتهى إلى رعب مكين عبّر عنه جورج أوريل في روايته: 1984.يتلي المقدمة دراسة للناقد الإنكليزي المعروف باتريك باراندر، عنوانها: اليوتوبيا والعلم. والسيد بارندر شهير بكتابه: «الرواية والأمة»، الذي ترجم إلى العربية، قبل سنوات قليلة، وهو يشرف على وضع تاريخ شامل للرواية الإنكليزية. ومع أنه يتطلع مثل غيره إلى مجتمع إنساني مطمئن، راجعاً إلى «جمهورية أفلاطون»، فقد توقف أمام «اليوتوبيا الحديثة»، التي تستجير بالعلم، وأمام «الرواية» التي لا تثق كثيراً بتطبيقات الإنسان للعلم ومعارفه، ذلك أن العلم يحتاج إلى الحرية. يسأل بارندر: «كيف يمكن للفكر العلمي أن يتحقق إن لم يكن البحث العلمي حراً نشر مكتشفاته؟». أشار في سؤاله إلى الرواية الساخرة التي كتبها ألدوس هكسلي بعنوان «عالم جديد شجاع»، «ذلك أن أسوأ ناحية من نواحي مجتمع المستقبل عند هكسلي استخدام التكنولوجيا الحيوية لزيادة الظلم الاجتماعي. بل إن في العلم، الذي لا رادع له، ما يفضي إلى الإرهاب، حال العالم المجنون في رواية ج . هـ. ويلز: «جزيرة الدكتور مورو»، الذي أراد المزاوجة بين البشر والوحوش.رداً على أفكار تضع الأدب في مواجهة العلم، معتبرة أن الأدب لصيق بعالم الروح، وأن العلم مادي ومختص بالمادة قبل غيرها، كتب هشام البستاني، وهو طبيب وأديب، عن «الخيوط اللامرئية الممتدة بين العلم والأدب». استهل دراسته بوحدة النقائض، كي يؤكد «أن المقاربتين العلمية والأدبية، هما محاولتان لفهم العالم وتفسيره وسبر أغواره من زوايا مختلفة، محاولتان متحولتان، لا ثبات في منظوريهما، ينتميان إلى طبيعة «دائمة التحرّك دائبة التغيّر».في سعي مجتهد إلى تجسير المسافة بين العلم والأدب، عاد البستاني إلى كارل بوبر وبرتراند راسل، واصلاً إلى ستيفن هوكنج، واختار من العناوين ما يوحي بما يريد قوله: نقطة البداية المشتركة، اختبار الأدب وتكذيبه، التعبير الأدبي عن العلوم، من التحكّم بالعالم إلى خلق العوالم، .... وما شاء أن يقوله ماثل في صيغة أخيرة: العلم والأدب يتصلان ولا ينفصلان، وأن فيهما من عوامل الاتصال أكثر ما فيهما من عناصر الانفصال، حتى العمل في اللغة لا يقتصر على الأدب، ذلك أن نماذج كثيرة من كتب العلماء تحتفل بالشعر والاستعارات والتشبيهات والسخرية السوداء، حال كتابات «عالم الكونيات» كارل ساجان، ناهيك بـ «الطبيعة الشعرية»، بلغة الفلكي دوكنز، «التي يستفزّها الكون في دواخل الإنسان». مع ذلك، وبعيداً عن تفاؤل البستاني، فإن علاقات الاتصال والانفصال بين العلم والأدب، لا تمنع «فكرة الحلم» التي تلازم الأول، ومجاز الكابوس الذي لا يتحرر منه الأدب، إلا نادراً.توحّد دراسة عالم الأحياء الفرنسي فرنسوا جاكوب - جائزة نوبل 1965 - «الخيال في الفن والعلم»، بين الطرفين اعتماداً على مقولة: الجمال/ الحقيقة، وإن كان بينهما أكثر من فارق واختلاف: فالعمل الفني/ الأدبي لا يتقادم عليه الزمن، «أما في العلم، فإننا نعرف أن عملنا سيجري تجاوزه في وقت لاحق»، أكثر من ذلك أن العالم يصف العلم الخارجي حيث توجد الأشياء مستقلة عن الذهن البشري، في حين أن الفنان/ الأديب يصف عالماً داخلياً ليس للأشياء والأحداث فيه وجود حقيقي.لذا يرتبط العالم بالاكتشاف، ويتصل الفنان/ الأديب بمفهوم الخلق. «إن مبدع العمل الفني فريد لا يحلّ محلّه أحد. أما من يقوم بالاكتشاف فيمكن استبداله، فعالم الفيزياء يتليه عالم فيزياء آخر، بينما يـظل غـوستـاف فلوبـيـر متفـرداً، فـلو لم يـوجد لما وجدت مدام بوفاري، ولو لم يوجد موتسارت لما وجدت أوبرا المزمار السحري،...، ولولا هيرمن ميلفل لما تحوّل «الحوت الأبيض» إلى أسطورة».في دراسته «المقياس الكوني» يتأمل غريتس فكتر الذي يجمع بين المعرفة العلمية والأدب، أبعاد الكون الهائلة، التي يحكمها التحوّل، ووجود الإنسان المتناقض فيه، ذلك أنّ «الإنسان يعيش في الدرك الأسفل، لكن بعض البشر ينظر إلى النجوم»، كما يقول أوسكار وايلد. وسواء نظر الإنسان إلى النجوم، أم اكتفى بأرضه الواطئة، يبقى نقطة تائهة لا يعتد بها، ويبقى علمه، الذي يعتد به، أداة قياس صغيرة، لا تقرأ من وجوه الكون إلا قليل القليل. فأمام الكون، الذي هو متناه في الكبر، «يبدو الإنسان نقطة تافهة في الفراغ».تتناول دراسة جين ف. ثريليكل الواسعة «النظرية التطورية والرواية»، متوقفاً أمام العلاقة بين الرواية، وكتاب دارون «أصل الأنواع»، أكان ذلك على مستوى تطور الشخصيات ومآلها، الذي لا يفصل عن البيئة، أم ما مسّ فكرة «الحتمية المادية المتشائمة». فقد أسست فكرة دارون القائلة بالتطور عبر الزمن مبدأ السرد بوصفه جانباً أساسياً من تاريخ الطبيعة، وكذلك فإن فكرة الأحداث الصغيرة العابرة التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج عظيمة الأهمية، مسألة مركزية في الرواية الحديثة. لذا قال هنري جيمس: الروائي - كعالم الأحياء أو عالم الاجتماع - حر في أن يختار المجال المناسب للأفعال وأن يضع تعقدياته في شكل له معنى.أضاءت الدراسات المشار إليها، الجيدة الترجمة، وجوهاً من علاقة العلم بالأدب، ومن علاقة الرواية باليوتوبيا، وفقاً لما جاء في دراسة كاتب هذه السطور: «من وعود بورميثيوس إلى كوابيس فرانكشتاين»، التي مرت على الخطاب العلمي في عصر التنوير واغتراب الإنسان عن إنجازه، كما جاء في رواية ماري شلي الشهرية (فرانكشتاين)، وعلى قضايا الخيال العلمي الذي لا يكون متفائلاً إلى صدفة.تعكس «المجلة الثقافية»، في عددها المكرّس للعلم والأدب، جدّية في التعامل مع موضوعها أقرب إلى الندرة، فالمواد المترجمة لا ينقصها التكامل، تضيء بعضها بعضاً. بل أن رئيس تحريرها محمد شاهين حرص على نشر صفحات من كتاب ج. د. برنال: «العلم في التاريخ»، الذي هو من كلاسيكيات الثقافة في القرن العشرين، وحرص أكثر أن يوائم بين الافتتاحية التي كتبها و «الدراسات التطبيقية» المرتبطة بها، ففي المجلة ما يشير إلى «العمل المفرد الصوت»، الذي يبحث عن المادة العلمية، ويتابعها قبل الطباعة وبعدها، مذكراً برومانسية متقادمة لا تزال تؤمن، رغم فساد الزمن، بدور «الكلمة المطبوعة» في تهذيب النفوس ونشر المعرفة.
نقلا عن جريدة الحياة