من نافلة القول أن مايطلق عليه عنف الجامعات ماهو إلا عنف مجتمعي وإنما يظهر جليا في الجامعات وواضح بحكم أعمار الطلبة وضآلة تجاربهم ولعل المقولة الشهيرة التي نرددها دائما بأن « هذه الظاهرة دخيلة على قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا « لم تعد مقبولة أو مستساغة ولا تنسجم مع واقع الحال الذي نعيشه، فالأمر لم يعد بالظاهرة وإنما هي حالة مرضية مزمنة تتطلب علاجا فوريا وإستئصالا حقيقيا لجذورها خصوصا أن الأمر يمتد من داخل أسوار الجامعات وينتشر في المجتمع كما هو السرطان في الجسد، ولا شك بأن التبعات والنتائج التي حدثت على إثر مشاجرة الجامعة الاردنية لأكبر مثال ولعله الأشد وطيسا على ما نرمي إليه.ولست هنا بمدعي الإلمام التام بتشخيص الحالة وإجتراح الحلول، بقدر ما هي إضافة لما يطرح هنا وهناك على أن توثق هذه الآراء وتدرس وتجد من يعتني بها ويبادر إلى طرحها كبرامج عمل للإنتقال من حالة التشخيص إلى حالة المعالجة، ولعل أولى هذه الأسباب هو ضعف الوازع الديني فالرادع الحقيقي الأول لإرتكاب أي فعل أو تجنبه إنما هو الدين وهذا الضمير المرتبط بالخلفية العقائدية التي زرعت في نفوسنا وعقولنا، ولكننا نؤدي الشعائر الدينية بمعزل تام عن المعاملات، في حين أن معلم البشرية يقول وما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق وفي حديث آخر إنما الدين المعاملة نقف عاجزين عن أن نرى قيم مثلى مثل التسامح، العفو، اللطف، الإعتذار وكأنها غريبة عن الدين، خصوصا بأن أكثر الأسباب المؤدية للشجار والنزاعات لا يتعدى حلها كلمة تقبل إعتذاري أو أرجو منك السماح، كلمات بسيطة جديرة بحقن دماء أشخاص لا ذنب لهم ولا غرم غير إنهم تواجدوا في المكان صدفة.هل هي مسئوولية الدولة أو الحكومات في أن نربي أبناءنا وأنفسنا على الفهم الحقيقي للتشريع الديني، أم إنها عملية تربوية مشتركة يساهم بها الفرد والحكومات ولأحزاب والحراكات المطالبة بحقوق الناس وبالطبع المؤسسات التربوية سواء مدارس كانت أو جامعات، فلا يدعين شخصا أي كان بأنه لا يستطيع أن يساهم في علاج حالة التشنج والإجتقان والغلظة التي نعيشها ونراها أمام أعيننا كل يوم، ونعايشها لدرجة أن أصبحت بهذه القسوة.السبب الآخر هو هذا التهاون الملحوظ في تفعيل الضوابط القانونية لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، ففي حين أن لدينا قوانين ناظمة للمجتمع والدولة إلا إننا نتساهل تارة ونتهاون أخرى في تفعيلها وتحقيقها، حتى بات الأمر أحجية ولغزا عجيبا، فما علاقة الحريات السياسية والمطالبين بها، في أننا نتراخى في معاقبة أشخاص يعتدون على حقوق خاصة وعامة ويهددون السلم الإجتماعي ويغلقون الطرق هنا أو هناك ويشعلون الإطارات، أليس الأجدر بأن نتعامل معهم بأقصى درجات الحزم وقوة القانون حتى لا تدب الفوضى ويعم الخراب، أم إنها رياح هذا الربيع التي أحدثت خلطا عجيبا مابين الحقوق والواجبات، حتى بات الأمر وكأنها الفوضى الخلاقة التي بشرنا بها، أتمنى على الأجهزة الأمنية والمعنية أن لا تتساهل مع الخارجين عن القانون حتى لا تتركنا فريسة للفوضى والدمار وأن لا نعود لعهد ما قبل الدولة حيث لا قانون ولا نظام وإنما قوة وخسران.ومثلما لا نحمل الجامعات وإداراتها كل المسئوولية، فأننا لا نعفيها من واجباتها في معالجة الحالة، فهذه الجامعات التي أنشئت بمئات الملايين من الدنانير، كان الهدف من إنشائها بالإضافة إلى الدور التعليمي هدفا إنمائيا، فإلى أي حد حققنا هذا الهدف خصوصا في المناطق التي تحتاج إلى تنمية فعلية، ولماذا فشلنا في معالجة حالة العنف كجزء من منظومة الحل ؟ هل لأننا لم ندرس طلابنا علم المنطق والفلسفة ؟ أم لأننا مازلنا ندرس التربية الوطنية كنصوص جامدة وتقليدية ومملة وبأننا مازلنا نلقنهم متى إستقل الأردن ولم نعلمهم فن الإختلاف ؟ كما أن للمحاضر دورا كبيرا في إحداث التغيير المنشود فلا يليق بشخص تغرب وعايش حضارات مختلفة وقضى سنيين من عمره في الإطلاع والمعرفة أن يتعامل مع الطلبة وكأنه الحاكم بأمر الله، فقيم التعالي والفوقية والتسلط والتحيز التي يمارسها البعض لا تخلق إلا نفوسا مهزومة وخائفة ولن تتردد في إستخدام العنف في أبسط المواقف التي تحدث معها، كما أن الشعور بالغبن أو بالحظوة لن يكون كفيلا في تحسين سلوك الأفراد وتعظيم القيم الإيجابية ما بين الطلبة.وربما يفوت بعض إدارات الجامعات بأن رجال الأمن الجامعي هم أول الأشخاص الذين يتعاملون مع أي شجار أو نزاع مابين الطلبة وهم الأقدر على تطويقه، فلا بأس لو أخضعنا هؤلاء الأفراد لدورات صقل ومعرفة في مهارات التواصل والمهارات الحياتية التي تساهم في تحسن قدرتهم على فض النزاعات والمشاجرات التي قد تحدث مابين الحين والآخر وحينها سيبقى الأمر مقتصرا على أعداد بسيطة لا تستنجد بآخرين من هنا أو هناك.كما أن الأنشطة اللامنهجية والرياضية والثقافية كفيلة بإحداث تقارب ثقافي وفكري مابين الطلبة وسيساهم بشكل كبير في تطوير القدرات المعرفية والإدراكية بالإضافة إلى تحسين قدرات التواصل الإجتماعي مع الآخرين فلا بأس لو كانت هذه الأنشطة جزءا من الخطة الدراسية يضاف إليها برامج الخدمات الإجتماعية وبشكل حقيقي وليس صوريا، كما أن الخدمة العسكرية الشعبية ستساهم في ترسيخ قيم الإنضباط الطلابي، في حين أن تغليظ العقوبات وعدم التهاون في تطبيقها سواء كانت في المسار الأكاديمي أو السلوكي سيكون رادع قوي للحد من ممارسة العنف والفوضى داخل الجامعات.لعل الأخطر في هذه الحالة هو هذا النمو غير الطبيعي لفطر الهويات الفرعية السامة، ففي حين تنمو هذه الهويات على أسس مناطقية أو عشائرية وتعظم على حساب الهوية الوطنية الجامعة فأننا نتراجع ونساهم في تفتيت الوطن وتفسيخه بالمفهوم الحقيقي، فلا يقتصر الأمر على طلبة في ريعان الشباب يتنادون هنا أو هناك بدافع الفزعة والنخوة المغلوطة وتصبح البلدة والعشيرة ملاذهم ومأواهم والوطن الذي يدافعون عنه، الأخطر بأن ساسة كبارا قد لجأوا حينما حوصروا بشبهة هنا أو مظنة هناك إلى الهوية الفرعية وتخلوا عن هوية المواطن الذي يخضع للقوانين والأنظمة ويدافع عن نفسه بقوة القانون وأستنجدوا بفوضى التعصب وتمترسوا خلف هويات لم يعيروها إنتباها حينما كانوا في مناصبهم وإستفادوا من المغنم وأشركوا ناسهم في المغرم.إذا الأمر ليس مقتصرا على الجامعات وإنما هو قضية مجتمعية خطيرة إذا لم نبادر إلى معالجتها والقضاء عليها ستستفحل وتنهش جسم الوطن ككل وحينها سيكون إستئصال طرف ما من هذا الجسد قد فات أوانه، وعلينا جميعا أفرادا ومؤسسات وحكومات المبادرة الفورية كلا من موقعه إلى المساهمة بإحداث التغيير المنشود لعلنا ننقذ وطننا من غلواء التقوقع والتطرف والعنف.