بالأمس ودّعَنا صاحب (إيقاع المدى) ، مخلفا في مداه الممتد أربعة وتسعين عاما ، عشرات الكتب والدراسات والمقالات في الفكر والأدب والنقد.. وبالأمس فُجعنا ، نحن أصدقاءه وزملاءه وتلامذته ، برحيل هذه القامة الفكرية الأدبية السامقة، فُجعنا برحيل أستاذ الأدب الحديث والنقد في الجامعة الأردنية ، الأستاذ الدكتور محمود السمرة ، الذي سدّ ثغرة واسعة في جدار الأدب العربي بما كتبه في ميادين التحقيق والترجمة والتأليف ، رائده في ذلك العقل الحر ، والتفكير المستنير ، والمنهج العلمي المجرّد. ليس الحديث عن محمود السمرة ، هذا الطود الشامخ في عالم الأدب والفكر والنقد ، بالأمر الهيّن ، وليست مقالة قصيرة في صحيفة يومية ، قادرة أن تحيط بجوانب هذه الشخصية الفذّة ، ولكنني سأحاول في هذه المقالة أن ألقي ضوءا على بعض الجوانب الإنسانية لهذا العلم المتميّز الذي رحل تاركا لنا زوجة مثقفة مخلصة ، وابنا وابنتين يسيرون على دربه في خدمة العلم والمعرفة والإنسانية. قابلت الدكتور محمود السمرة لأول مرة في حياتي ، أواخر سنة 1974 ، وكان آنذاك نائبا لرئيس الجامعة الدكتور عبد السلام المجالي.. ولم تكن المقابلة ودية بسبب عقبات حالت دون تعييني في قسم اللغة العربية آنذاك.. ولكن تلك العلاقة المتوترة قد انقلبت إلى ودّ حميم بعد أن تمّ تعييني بعد سنة ، لأصبح من أكثر الزملاء قربا له ، أحضر ندواته الأسبوعية ، وأشاركه الإشراف على بعض طلبة الدراسات العليا ، وأشترك معه في مناقشة الرسائل ، وأدرّس بعض مساقاته في حال انشغاله.. لقد كان الرجل ذا نفس سامية ، وروح عذبة شفافة ، ننهل منه الإباء والتسامح والإنسانية والتواضع ، إلى جانب العلم والمعرفة والموضوعية.. وكما كان متفوقا في دراسته الثانوية والجامعية ، كان راقيا في تعامله مع الآخرين ، يفرض عليك أن تحبّه وتحترمه ، لما تنطوي عليه نفسه من رفعة وسمو ، إلى جانب العلم والمعرفة وأناقة الملبس والمظهر ، تلك التي كانت توهمك أنك أمام أحد نبلاء أو لوردات بريطانيا. لم يكن السمرة يحسد أحدا ، أو يحمل حقدا على أحد ، حتى الذين أساؤوا إليه لم يكن يردّ على إساءاتهم أو يؤذيهم ، وهو القادر ، وأذكر أن أحد زملائنا في قسم اللغة العربية كان لا يتوقف عن الإساءة إليه في قاعات المحاضرات ، ومع ذلك لم يعاقبه ، وفي يده الصلاحية ، كي لا يقطع رزق أبنائه ، كما قال لي مرة. ( كان مصير ذلك الأستاذ الذي كان يتدثّر بالدين والأخلاق ، الطرد من الجامعة بفضيحة أخلاقية).لقد علّمنا السمرة الأدب وأصول التعامل والتواضع والإخلاص للعلم ، وكان في كل حقل شغله رمزا للخلق الرفيع ، والعلم والتواضع ودماثة الخلق ، وهو الذي كنا نزوره في البيت ورئاسة الجامعة ووزارة الثقافة ، دون تكليف أو رسميات ، ولكنه كان غضوبا حادا صلبا تجاه أي أمر يرى فيه مسّا بقيمته، أو انتقاصا من قدره وقدرته العلمية ، وهذا ما بدا عندما رفض بإباء وشمم ، جائزة الدولة التقديرية مناصفة سنة 2008 ، معلللا ذلك بأن قيمة الجائزة معنوية لا مادية ، ويجب ألا يشارك الفائز بها أحد ، وقد أُثار موقفه ذلك إعجاب الكثيرين الذين أيدوه في ما ذهب إليه. السمرة سادن الفكر والأدب، كرّس حياته لخدمتهما منذ أن أسّس والدكتور أحمد زكي مجلة العربي الكويتية أواخر الخمسينات من القرن الماضي ، تلك المجلة التي غدت أهم مجلة ثقافية في الوطن العربي ، والتي كان السمرة يقدّم في كل عدد منها عرضا لكتاب فكري أو ثقافي أو سياسي ، وهو في كل ما كتب كان منحازا للأدب الحر ، وللتفكير العقلاني المجرّد. وضع السمرة كتابا عن طه حسين بعنوان سارق النار ، وسارق النار في الأسطورة الإغريقية هو برميثيوس الذي سرق نار المعرفة من الإله زيوس وأعطاها للبشر ، فانبعث الدفء في الأرض وعمّها الخير ، بعد أن كانت جدباء ، فعاقبه الإله زيوس عقابا قاسيا ، إذ قيّده بصخرة في قمة جبل ، فكانت الطيور تأتي نهارا فتأكل قلبه ، فإذا حلّ الليل نبت له قلب جديد ، لتاتي الطيور في اليوم التالي لأكله من جديد ، وهكذا يستمرّ عذابه الأبدي.. وهذا الكتاب بدلالة عنوانه ومقدمته ، يعطينا فكرة واضحة عن تفكير السمرة ، وموقفه من الرجعية والجمود الفكري والتعصب الأعمى ، خاصة أن صورة طه حسين لدى قطاع واسع من الناس هي صورة الملحد أو الزنديق الخارج على الدين ، ولذلك يقول السمرة في مقدّمة الكتاب: "إن طه حسين ثائر على الأوضاع المتردّية ، وهو الذي علمنا حرية الفكر ، وجعلنا نقتحم مناطق كنا نظنّها محصّنة لا يجوز الاقتراب منها.. كان طه حسين يسعى دائما إلى تثقيف الشعب وتنويره، وكل ما كتبه كان يهدف من ورائه إلى إثارة العقول ، ليدرك الناس أين هم ، وأين يجب ان يكونوا "، وهذا ما نراه في محمود السمرة الرائد الذي لم يكذب أهله ، الرائد الذي أراد في كل ما كتب إنارة الدروب أمام المثقفين والأدباء ، ونشر العلم والمعرفة. رحمك االله يا أبا الرائد ، فققد تركت للأجيال تراثا ضخما في الفكر الحر، والأدب الرفيع ، والثقافة العالمية.
نقلاً عن صحيفة الرأي الأردنية