منذ فترة وجيزة توفي أحد الشبان الناشطين على "اليوتيوب" رحمه الله وتداولت أخبار وفاته على مستوى الأردن والخارج وأصبحت وفاته "تريند" على وسائط التواصل الاجتماعي، وبذات الفترة تقريبًا انتقل لرحمة الله تعالى د.نبيل الشريف أيضاً وهو شخصية عامة لا أعرفه شخصيًا إلا من خلال مواقعه التي تبوأها خلال حياته.
العجيب بأن ماكينة الإعلام اليوم تقودها وسائل التواصل الاجتماعي وتعكس بجميع الأحوال الحالة العامة والهم العام والاهتمامات المشتركة للناس ويُعبّر عن مدى أهمية الخبر بعدد النشر والمشاركات من قبل الجماهير.
وإذا أخذنا الحالة السابقة للمقارنة ليس إلا وليست انتقاص من أحد فالدكتور الشريف يحمل درجة الدكتوراه والماجستير في آداب اللغة الإنجليزية من جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية وشغل العديد من المناصب أهمها وزير دولة لشؤون الإعلام والاتصال، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ورئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء الأردنية ” بترا” بالإضافة إلى أنه عمل كعضو هيئة تدريس في كل من الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وغيرها الكثير.
ومع كل ما يحمل الشريف من مؤهلات ومناصب وخبرات وتجارب ونجاح شخصي إذا جاز التعبير فإن خبر وفاته لم يلق الاهتمام والصدى الذي لقيه خبر وفاة شاب في مقتبل العمر لم يسمح له عمره بعد أن يبدأ مشواره ولم يسعفه الوقت بعد لصقل شخصيته أو بناء محتوى فكري في رسائله "اليوتيوبية" وكان بالإمكان لو أمهله العمر أن يقدم شيئًا ملموسًا.
المقارنة المذكورة لا تعني بالضرورة أفضلية لأحد على آخر ولكنني أسوقها هنا اليوم لأحاول تفسير ما نحن فيه، من غياب القدوة والنموذج والإطاحة بكل المفاهيم البنيوية السابقة التي كنا نسعى لترسيخها وأعتقد جازمًا بأن التكنولوجيا الحديثة قد غيرت السلوك الجمعي للناس واخترقت كل التحصينات الاجتماعية التي وصلت إلينا من الأجداد وحاولنا بفترات سابقة لوسائل التواصل ايصالها الى أبنائنا.
لست ضد الإعلام الرقمي الحديث ولا املك الشجاعة لأن أقول بأنني أستطيع أن أهجره أو أتخلى عنه وكذلك الأغلبية، إلا أنني أشعر بالإحباط عندما أرى ابناؤنا وهم يتابعون أشخاص على هذه الوسائل يحصدون ملايين المشاهدات والمتابعات ولا يملكون ما يقدمونه أصلًا، فالأمر لا يزيد عن عرض لبعض الحركات السخيفة التي ليس بها مهارة ولا معرفة، وآخرون ينقلون لنا أحداث حياتهم اليومية كما هي وبلا أي قيمة أو إضافة وهناك نوع ثالث يتحدث ويجعجع ويقهقه ولا يكلف نفسه أن ينقل ولو معلومة واحدة مفيدة.
اليوم أنا وأنتم وكل شخص يدرك بأننا وابناؤنا نسير نحو المجهول وبأن هؤلاء الأشخاص هم من يقودون الركب وهم من يأخذون بأيدي أبنائنا للمستقبل، أدواتهم( يوتيوب، تيك توك، فيس بوك وانستجرام) وغيرها من أدوات الوهم والضبابية التي سيطرت على حياتنا وفرغتها من المعنى الحقيقي وواقعيتها.
بطبيعة الحال سيسأل البعض ما العمل؟ هل نستسلم أم لدينا أمل بالتغيير، اليوم المهمة الأولى ومع تراجع دور الدولة التقليدي مناطة بنا كآباء وأسر ويجب علينا أن ندرك بأننا امام تحديات أصعب بكثير من الماضي القريب وبأن الإبقاء على ابنائنا في البيوت درءًا للمشاكل وخوفًا من الخارج ما عادت تُجدي نفعًا بل أصبحت وأمست مشاكلنا في الداخل، ولا مفر من مواجهتها والتقليل قدر الإمكان من آثارها وهذا ممكن بالمراقبة المقننة والتوجيه الإيجابي ومحاولة التخلص من الإدمان الرقمي.
كما أن الدول وأين ما كانت يجب أن تدرك بأن مفهوم المواطنة قد بدأ بالتزعزع وإذا لم تبادر الحكومات إلى ضبط التدفق الرقمي اللامحدود واستخدام أدوات عصرية حديثة تتوافق مع رغبات هذا الجيل فإننا سنصل إلى ذلك اليوم الذي ستصبح فيه المواطنة حالة هلامية فضفاضة عديمة القيمة وفارغة المحتوى.