في منعطف تاريخي مهم
"الأردنية" تقود التغيير برؤية دقيقة وخطط محكمة
*الأستاذ الدكتور أحمد يعقوب المجدوبة
ولدت الجامعة الأردنية مميزة، وهي مميزة إلى اليوم. وسر تميزها – الذي ساهم في صنعه طلبتها وأساتذتها وقادتها، منذ إنشائها ولغاية الآن – أنها دوماً في الطليعة، سباقة إلى تبني كل ما هو ريادي وجديد، وبارعة في تطبيق كل ما تتبناه.
فكلمّا شعرتْ أن ركوداً قد أخذ يتبلور أو تراجعاً على وشك أن يحدث أو قِدماً قد بدأ يعتري بعض عملياتها، تبادر دون تأخير إلى معالجة مكامن الخلل، والانطلاق من جديد في آفاق رحبة.
هذا ما فعلتْه في السبعينيات عندما تبنّت نظام الساعات المعتمدة، فكانت الأولى على المستوى العربي التي تفعل ذلك؛ وفي السنوات والعقود التي تلت عندما أدخلت تخصصات غير مألوفة، ونفذت برامج الأسر الجامعية وخدمة المجتمع، وبرنامج الألف حاسوب، وعندما حوسبت العديد من عملياتها بما في ذلك الامتحانات والتسجيل، واعتمدت نتاجات التعلم وطبقت نظام ضمان الجودة، وفتحت البرنامج الدولي، وأنشأت أول مكتب للعلاقات الدولية وأول كلية تأهيل وأول كلية لغات أجنبية وأول مركز دراسات مرأة وأول مركز جودة واعتماد وأول مركز للخلايا الجذعية. ولا يجب أن يُنسى أن انطلاقة المسرح الأردني كانت من حرم الجامعة، وأن أول مشاريع خدمة المجتمع المحلي بدأت من قسم الاجتماع. وغير ذلك كثير.
واليوم تتخذ الجامعة خطوة غير مسبوقة، ستُحفر في تاريخها بأحرف من ذهب؛ فمن مبدأ التحول من التعليم إلى التعلم – أو على الأقل المزج المتناغم بين العمليتين – شرعت إدارة الجامعة منذ مدة، من خلال لجان متخصصة، بتعديل حزمة متطلبات الجامعة تعديلاً جوهرياً، هدفه إحداث نقلة في عملية التعلم وأساليبه من ناحية، والمهارات التي يكتسبها الطلبة الذين يدرسون تلك المتطلبات من ناحية أخرى.
وسيبدأ تطبيق هذه الحزمة اعتباراً من مطلع العام الجامعي المقبل 2017/2018. وتعكف العديد من اللجان المختصة من كليات الجامعة كافة على بلورة كامل التفاصيل المتعلقة بالحزمة بدقة متناهية ليخرج المشروع في أفضل حلله.
لسنوات طويلة ساد شعور، تعززه العديد من الدراسات، مفاده أن نظام التعليم المدرسي هو – على نحو عام – نظام محوره التعليم لا التعلم، والتلقين والحفظ، لا الفهم العميق أو التحليل، والكتاب لا المنهاج، والمعلومات النظرية المجردة لا النشاط أو التجربة وحل المشكلات.
ومن هنا يُقبَل في الجامعة طلبة لا يمتلكون المهارات اللازمة التي تمكّنهم من تعلم فاعل على المستوى الجامعي، ومما يفاقم الأمر أن حزمة متطلبات الجامعة التي كانت منفذة لسنوات يغلب عليها الطابع المدرسي ذاته، إلا في حالات استثنائية هنا وهناك.
تأتي الحزمة الجديدة لتعالج نقاط الضعف هذه، في محاولة جادّة إلى تزويد الطلبة المقبولين بالمهارات الأساسية التي يحتاجونها كي يكونوا متعلمين فاعلين نشطين معتمدين على أنفسهم، يفهمون المعلومة بدقة، ويخضعونها لسلطة العقل وسلطان المنطق والحجة والبرهان، ويفهمون أبعادها كاملة بعمق وشمولية.
تسعى الحزمة إلى إعادة تشكيل شخصية الطالب، ذهنياً ومعرفياً وثقافياً ومسلكياً، فتُعنى باعتداده برأيه المدروس وثقافته العميقة، مثلما تعنى بتسامحه مع الآخرين وتقبله لآرائهم، على مبدأ أن الاختلاف في الرأي والحوار الحضاري والتعددية في الطرح هي أمور صحية.
ولا تغفل الحزمة العناية بالجانب الوجداني للطلبة من خلال إكسابهم مهارات التذوق الأدبي والفني والجمالي، بما يؤهلهم للتكيف مع الحياة الجامعية والعناية بميولهم ومواهبهم وأفكارهم الخلاقة وإبداعاتهم.
إننا نسعى إلى تعليم مختلف عن ذاك الذي ساد لسنوات وأدى غرضه في حينه، لكنه لم يعد ملائماً للعصر، ونعمل على توفير بيئة جامعية صحية تحتضن الريادة والإبداع؛ تمكن خريجينا من المنافسة وطنياً وإقليمياً ودولياً في ظل العولمة وتداعياتها.
وتنمى كل هذه المهارات وغيرها من خلال متطلبات الجامعة الإجبارية والاختيارية، فالإجبارية تشمل، إضافة إلى العلوم العسكرية، الثقافة (وليست التربية") الوطنية، ومهارات التعلم والبحث العلمي، ومهارات التواصل بمفهومها الواسع، ومهارات التفكير الفلسفي والناقد، والحضارات الإنسانية. أما الاختيارية، ففيها مجموعة واسعة من المواد، تبدأ بالثقافة الإسلامية والإسلام وقضايا العصر والحضارة العربية الإسلامية والثقافة القانونية والثقافة البيئية والثقافة الصحية والقدس وأمهات الكتب العالمية وتذوق الفنون والريادة والإبداع، ومادة موضوع خاص التي يطرح من خلالها أي موضوع تقترحه الأقسام والكليات ويسهم في إثراء معارف الطلبة وثقافتهم.
وهنالك أمران جديدان غاية في الأهمية في الحزمة المعدلة، إضافة إلى ما ذكر؛ يتمثل الأول في البرنامج التحضيري الذي يسبق أو يتزامن مع متطلبات الجامعة، حسب مقتضى الحال، وهدفه تنمية المهارات الأساسية للطلبة الذين هم بحاجة لمزيد من أساسيات اللغة العربية ومهاراتها واللغة الإنجليزية ومهاراتها ومهارات الحاسوب، حتى يكون هؤلاء الطلبة – الذين لم يتلقوا التدريب الكافي في مرحلة ما قبل الجامعة – على أتم الاستعداد والجاهزية عندما يبدأون دراسة متطلبات الجامعة.
أما الأمر الثاني فيتمثل في مادة غير تقليدية تقوم على مبدأ الأسر الجامعية، هدفها تهيئة الطلبة للحياة الجامعية ودمجهم في مجتمعها على نحو فاعل. ويتم في هذه المادة، التي سميت "الحياة الجامعية وأخلاقياتها"، توزيع الطلبة المقبولين على أعضاء هيئة التدريس في الجامعة لمدة فصل دراسي (الفصل الأول الذي يلي قبولهم مباشرة) بحيث تشكل كل مجموعة صغيرة (بحد أقصى عشرة) "أسرة" تجتمع برعاية وإشراف عضو هيئة التدريس ساعة واحدة في الأسبوع لمناقشة قضايا حيوية تتصل بحياة الطلبة في الجامعة وتنظيم أنشطة لاصفيّة تساعد في تيسير تفاعل الطلبة في الحياة الجامعية على نحو إيجابي، وتمكنهم من ممارسة الأنشطة والفعاليات التي تصقل شخصيتهم إيجابياً وتمكنهم من التعامل مع الآخرين بروح التسامح والتقبل والحوار. وتعزز المادة انضباط الطلبة وحفاظهم على سلامة الحرم الجامعي ونظافته.
وسوف تكون لكل مادة من هذه المواد – والتي سوف تُوطّن الإجبارية منها في وحدة مستقلة – لجنة توجيهية تكون مهمتها الإشراف على إعداد نتاجات التعلم للمادة والإشراف على إعداد/اختيار المحتوى العلمي للمادة والكتب المقررة والمراجع، وعلى تقييم فعالية المادة وأساليب تدريسها وعلى تطوير المحتوى العلمي وأساليب التدريس كلما دعت الحاجة.
ولا يقتصر تدريس المتطلبات الإجبارية والاختيارية على كلية بعينها؛ بل سيكون متاحا أمام أعضاء هيئة التدريس من كليات الجامعة كافة شريطة توافر المقدرة لديهم على التدريس، وشريطة اجتياز دورة لهذا الغرض يعقدها مركز الاعتماد والجودة، ولا يتم تكليف عضو هيئة التدريس إلا بعد حصوله على وثيقة من مركز الاعتماد والجودة تثبت نجاحه في الدورة.
ويمكن أن يتولى محاضرون غير متفرغين من خارج الجامعة تدريس هذه المتطلبات شريطة توافر المقدرة والخبرة والنجاح في الدورة المشار إليها. كما يمكن أن يدرس المادة، حسب مقتضى الحال، أكثر من مدرس واحد إن لزم الأمر.
أما التركيز في هذه المواد، إضافة إلى الجانب النظري والمعرفي والثقافي القائم على الفهم العميق والتحليل الدقيق، فسيكون على الجانب العملي والتطبيقي، بهدف الابتعاد عن الحفظ والتلقين والتعامل مع المعلومة بقراءة ناقدة واعية.
ويكمل الحزمة ويدعم التعلم فيها، توجّه الجامعة لاعتماد أسلوب التعلم المدمج، القائم على المزج في المادة الواحدة بين اللقاءات الصفية والتعلم الإلكتروني التفاعلي. فيكون هنالك، على سبيل المثال، ساعة واحدة أو ساعتان للقاء الصفي قوامه النقاش والحوار بناء على تحضير مسبق للمادة المقررة، وساعة أو ساعتان تعلم إلكتروني فاعل يقوم به الطلبة خارج غرفة المحاضرة وربما خارج الحرم الجامعي. ويهدف هذا الأسلوب المتطور في التعلم إلى تمكين الطلبة من ممارسة ثقافة التعلم بالاعتماد على أنفسهم بدلاً من الاعتماد على المدرس، والذي هو ميسر للتعلم ومحفز على التفكير والبحث، والانتقال التدريجي نحو مزيد من التعلم الإلكتروني الفاعل المراعي للفروق الفردية.
وقد بدأ تطبيق نظام التعلم المدمج هذا اعتباراً من هذا الفصل في مادتين بهدف تعميمه على مواد أشمل وعلى نحو تدريجي بدءاً من مطلع العام الجامعي المقبل. يضاف إلى ذلك أن الجامعة بصدد توقيع اتفاقيات مع مبادرة "إدراك" التي أطلقتها جلالة الملكة رانيا العبدالله لمزيد من التعلم الإلكتروني و المدمج.
ويشار في هذا المضمار إلى أن الجامعة قد عدلت في خطتها الاستراتيجية بما ينسجم مع الرؤية والخطة التصحيحية المذكورة، وأن الغايات الاستراتيجية الرئيسية فيها تفرد بنوداً كاملة لتعلم مميز ذي وسائط متعددة يحدث نقلة في تعامل الجامعة مع المتعلمين ومع مخرجاتها، وفق أعلى المواصفات الدولية.
بهذا وبغيره مما لم يذكر، وهو كثير، تقود الجامعة الأردنية التغيير في السنوات والعقود المقبلة برؤية دقيقة وخطط محكمة، تحقيقاً للمنشود.
*نائب الرئيس لشؤون الكليات الإنسانية