**لا يمكن الوثوق بمن يخربون سمعة التعليم العالي مهما كان وزنهم وشكلهم.
** مللنا كثر الدراسات والاستراتيجيات والمؤتمرات والإعلام الكاذب للإنجازات.
**ماذا تفيد خلوات التعليم العالي المختصرة على أشخاص لا تأثير لهم.

 

يعيش التعليم العالي في بلدنا أمام كمّ هائل من الاستراتيجيات والأفكار والآراء والمفارقات واللجان والمؤتمرات والورش الكثيرة والأسئلة التي تبدو أنها بلا نهاية والندوات الاستعراضية التي تنتهي بانتهائها، ولنا ان نتوقف عند عشرات اللجان التي شكلت وأجرت دراسات كثيرة لم تغفل فيها شاردة أو واردة حول ظاهرة المشاحنات الطلابية في الجامعات، وخرجت كل لجنة بالعديد من التوصيات، وللأسف لا أحد يقرأ هذه التوصيات، وتبقى حبرا على ورق؟! وحين تدب الفوضى من جديد وتزداد وتيرة المشاحنات يتذكر المسؤول انه يجب ان تدرس المسألة من جديد؛ وكأنه هو الاول الذي وقعت المشكلة في عهده، مما يعني ان المسؤولين عن ملف التعليم العالي لا يبنون سياساتهم تراكميا على ما قام به من سبقهم، وهذا دلالة فشل سياسات التعليم العالي التي تتعامل مع المشاحنات الطلابية وكأنها في جزر متنافرة. ومما يؤسف له ان التعليم العالي في كل مرة يشكل لجان جديدة لدراسة العنف الجامعي من جديد، ولا يتذكروا ان دولة رئيس الوزراء الحالي كان قد أوعز لهيئة الاعتماد قبل عدة أشهر بتشكيل لجنة لهذه الغاية، وقد انتهت قبل ايام عدة من دراستها، وخرجت بتوصيات مهمة في هذا الشأن، والسؤال هل هناك تواصل بين الإدارات المعنية والهيئات والجامعات بهذا الخصوص؟ ام انها هبات موسمية كل يحاول ان يثبت انه موجود! أو يرمي القرص على غيره.

قامت وزارة التعليم العالي أكثر من مرة ودرست هذه الظاهرة، وكلها دراسات وضعت يدها على الخلل الحقيقي الذي يتسبب بهذه المشاحنات؛ لكن من يجروء على كشف الحقيقة امام المجتمع؟ من يقول ان الأعداد الخرافية التي تقبلها الجامعات هي السبب المباشر للعنف؟ من يقول ان أسس القبول والاستمرار فيها الى ما لا نهاية هي السبب؟ لماذا هذا التزاحم الشديد داخل غرف المحاضرات دون أدنى جدوى للتحصيل؟ وغالبا ما يبحث الطلبة عن أنموذجهم المثالي في الجامعة؛ ولكن مع الأسف لا يجدون نماذج ضابطة، ولا يوجد فكر طلابي حقيقي يؤشر على حراك فكري نظيف يخلصهم من الاحتقانات اليومية التي يعيشونها في المجتمع بسب البلبة التي تخلفها الهجرات القسرية من الدول المجاورة وما تشكله من تراكمات مباشرة وغير مباشرة على المجتمع الذي بات يفقد توازنه أمام هذا الكم الهائل من الضغوط النفسية والاجتماعية والمادية وكلها تصب في الجسم الطلابي الذي يأتي فاقدا القدرة على التفكير بالمستقبل، أما قصة توزيع الطلبة والاقران في جامعات الوطن فلا أظن أن هذا حلا منطقيا بسبب الظروف المالية التي إن تمت ستشكل آلية جديدة لرحيل هؤلاء الطلبة إلى القطاع الخاص مما يعني زيادة الأعباء الأسرية وتضخيم الجامعات الخاصة وكأن الجامعات الخاصة بمنأى عن المشاحنات الطلابية؟؟

التعليم العالي يجب ان يخرج من التخبط إلى رؤية شمولية كاملة، الى الصراحة والبناء على أسس تراكمية صحيحة، ويجب الا يكون عمله موسميا، لا بد من الاعتراف بجهود الأوفياء لرسالة التعليم العالي، ولا بد من انتهاج سياسة المساءلة لكل من يخطىء، ولا بد من اختيار قيادات أكاديمية جادة في خدمة العملية التعليمية بعيدا عن التنظير والهرطقة والكلام الفارغ، قيادات لا تعرف الوساطات ولا تؤمن بها، قيادات تخاف الله على هذه الأجيال، قيادات تتابع بدقة وشفافية أطراف المعادلة الأكاديمية، قيادت تؤمن بروح الحوار وثقافته وتعتمد على المخلصين والأوفياء لبيتهم الجامعي، لا ان تشغل وقتها بتأمين فرص وظيفية لمن لا يستحقونها، قيادات تخفف من اجتماعاتها وتنظر بوعي لمؤسساتها وجامعاتها وتقف من الجميع على مسافة واحدة؟!

مللنا كثر الدراسات والاستراتيجيات والمؤتمرات والإعلام الكاذب للإنجازات، مللنا التدليس والنخر في جسد التعليم العالي، مللنا التغييرات التي تنتهي كل مرة الى كوارث على التعليم العالي، مللنا الكذب الناعم والانتجلنسيا الفارغة والخطط التي تنتهي بذهاب رئيس وقدوم جديد، مللنا الصور الفاقعة اللماعة التي لا يوجد خلفها غير الخراب والتدمير، مللنا أشياء ان ذكرناها تزيد اوجاعنا ... .

التعليم العالي لا يمكن ان يبقى حقل تجارب لكل من هل ودب، ولا يمكن الوثوق بمن يخربون سمعة التعليم العالي مهما كان وزنهم وشكلهم، التعليم العالي يجب ان يتجاوز الأفكار الى الميدان، التعليم لا يجب أن يبقى مجرد اجتماعات مارثونية منفصلة عن جسم التعليم في الميدان، فماذا تفيد خلوات التعليم العالي المختصرة على أشخاص لا تأثير لهم، أشخاص لا يقنعون أنفسهم، أشخاص لا احد يحب سيرهم؛ لأنهم لا يملكون من الذكاء شيئا. والتعليم العالي ممثل ببعض جامعاته التي تعيش حالة من الإرباك والضعف والعنجهية؛ إرباك في الاختيارات والإدارات وضعف في التواصل والاستمرار والجودة، وعنجهيات في التعيينات والواسطة والتوابع والزوابع التي تلحقها وهي لا تعد ولا تحصى، نحن أمام كرة ثلج تكبر وتتداعى امام اعيننا إذا لم تتدارك الجهات المعنية أهمية القيام بثورة تصحيحية بيضاء في كل مفاصل التعليم العالي.