المجالي: "الأردنية" أعز من أولادي
المجالي يشهد فكرة إنشاء "الأردنية"
المجالي يدعو الحكومة لعدم التدخل "بالتعليم العالي"
التعليم ليس حكرا على الأغنياء
الدكتورة هيا الحوراني
عبد السلام المجالي الطفل الذي تمنى في صغره -حين سأله المعلم عن أمنياته المستقبلية- أن يصبح طبيبا ومعلما وعسكريا في آن معا، وكلها مهن عنوانها البذل والعطاء؛ فتحقق له ما تمنى؛ فكان أول طبيب أردني يحمل رتبة عسكرية، وهو أيضا أول من تسلم رئاسة الجامعة الأردنية لمرتين وعمل أستاذا في كلية الطب، بل هو الطبيب الوحيد الذي قاد "الأردنية" لأربعة عشر عاما، وأقرّ فيها نظام الساعات المعتمدة.
رحلة نحو العلم والمعرفة بدأها دولة الدكتور عبد السلام المجالي من الكتاتيب إلى مدرسة الكرك وصولا إلى ثانوية السلط، التحق بعدها بكلية الطب في دمشق، وهناك شارك في الحراك السياسي الذي قاده إلى الانتماء لصفوف حزب البعث، فكان هذا الطالب من أوائل الأردنيين الذين انتموا للبعث.
في عام 1971 تقلد المجالي منصب رئيس الجامعة الأردنية، كيف لا وهو الذي يعرف عنها الكثير، بل هو من شهد فكرة إنشائها؛ فيسرد لنا أن أحد أعضاء البرلمان البريطاني ويدعى (فليتشر) جاء في زيارة إلى قائد الجيش وكان وقتها المشير حابس المجالي، وصادف يومها غياب مترجم اللغة الإنجليزية فاستدعي ليكون الوسيط اللغوي بين قائد الجيش وعضو البرلمان البريطاني الذي طلب من الدكتور عبد السلام المجالي أن ينقل لقائد الجيش سؤاله عن احتياجات المملكة، وما تستطيع بريطانيا تقديمه لنا في هذه المرحلة، فما كان من المشير حابس المجالي إلا أن طلب إليه تأسيس جامعة في الأردن، لأن السلاح يبلى والعلم باق لا يبلى.
اختير عبد السلام المجالي عضوا في اللجنة الملكية للتربية والتعليم التي تولت مهمة دراسة الواقع التعليمي في الأردن، ووضعت مشروع تأسيس الجامعة عام 1962، وكذلك صار عضوا في مجلس أمنائها، وفي رئاسته الأولى للجامعة عمل أستاذا في كلية الطب، قبل أن يستدعيه الرئيس مضر بدران ويسند إليه عام 1976 حقيبة التربية والتعليم ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، ليعود ثانية بعد استقالة الوزارة إلى رئاسة الجامعة ويبقى فيها إلى العام 1989.
حديث الجامعة قادنا بالضرورة إلى الحديث عن التعليم العالي في الأردن، والحال التي وصل إليها، فكان التدخل السياسي وإلغاء ضريبة الجامعات كما يرى المجالي من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع مستوى الجامعات، واهتزاز صورة التعليم العالي في الأردن إلى حد ما؛ لأن دعم الجامعات من قبل الحكومات أفقدها استقلاليتها المعهودة، وجعلها تحت سيطرتها. وأشار إلى ضرورة أن تتكفل الدولة بنفقات تعليم الطلبة غير المقتدرين ماديا، وإعطاء الجامعات حرية رفع الرسوم بما يتناسب مع تكلفة التعليم الحقيقية في الجامعة، وهنا يذكر المجالي أنه رفع الرسوم الجامعية من عشرة دنانير إلى خمسين دينارا مرة واحدة دون تدرّج في نسبة الرفع.
إن التدخل في الشأن الجامعي ليس من الصواب في شيء، وهو ليس حماية للناس كما يقال، والقول الفصل هنا يكون على جودة المستوى والمنتج العلمي الرصين.
فالتعليم العالي تراجع بسبب تدخل السياسة فيه، والدليل على ذلك إنشاء وزارة التعليم العالي التي تتدخل باستمرار في الشؤون الداخلية للجامعات، ويعزو المجالي السبب في تقدم الجامعة الأردنية سابقا إلى غياب التدخل في الجامعة؛ ففيها أنظمة رئيسية ثلاثة: أنظمة مالية يتولاها ويضمن استقلالها مجلس الأمناء، وأنظمة إدارية يقوم عليها مجلس الجامعة، وأنظمة أكاديمية يطبقها وينظر فيها مجلس العمداء. فهذه مجالس ثلاثة رئيسية تتولى أمور الجامعة بعيدا عن أي تدخل حكومي، ومنذ أن أنشئت وزارة التعليم العالي، زاد التدخل، وغاب استقلال الجامعة المالي والإداري وحتى الأكاديمي، تجلى ذلك في الرضوخ للضغط بزيادة أعداد الطلبة المقبولين للدراسة في الجامعة، الأمر الذي أدى أن يتجاوز عدد الطلبة في الجامعة الأردنية 40 ألف طالب، وهذا أمر يسيء الى التعليم العالي والحرية الأكاديمية، فهنالك لجنة قبول تُقرر وتتدخل في الجامعة، والأصل أن تكون الجامعة مستقلة في تفكيرها وإدارتها وقراراتها وحتى رواتبها وتعييناتها.
وفي هذا السياق يشير المجالي إلى محور رئيسي مفاده أن تكون الرسوم من صلاحية الجامعة، وللجامعة الخيار في فرض سقفها المالي الذي يغطي تكلفة الدراسة ويتفق مع مواردها ومع ما يلبي احتياجاتها ويغطي إنفاقها الفعلي على العملية الأكاديمية، على أن يدفع الغني المقتدر تلك الرسوم، أما غير المقتدر مالياً ومقتدر علمياً فمسؤولية الدولة أن تدفع له عن طريق المنح أو القروض أو بأي طريقة أخرى، ومن الضرائب التي تجمعها الدولة باسم الجامعات؛ فهي كافية لتغطية رسوم المحتاجين، ودعم الطلبة الفقراء، لأن الحكومة حينما تدعم الجامعات بشكل مباشر فإنها تدفع عن الغني مثل الفقير وهذا لا يحقق العدل والمساواة المنشودين، وعليه؛ فالدعم يجب أن يوجه للطالب لا للجامعة، لأن تمويل الجامعات بهذه الطريقة يحكم باستمرار سيطرة الحكومة عليها.
وفي العودة للحديث عن ذكريات المجالي في الجامعة الأردنية لمسنا عمق العلاقة التي تربطه بها، وأنه يحن إلى شوارعها وكلياتها ومبانيها، وترى في عينيه شريطا حافلا من الذكريات الجميلة التي ما زالت تشكل عنده الصورة المشرقة التي كانت وستبقى عليها "الأردنية"، وبقاء بهائها مرهون بصدق الانتماء، واعتبارها ملكا لا بد من المحافظة عليه، ولا يكون ذلك إلا بالإخلاص في العمل، والجد في تطبيق الأنظمة والقوانين التي تخلق الثقة عند طلبة الجامعة وأساتذتها وإدارييها بسيادة العدل والمساواة؛ والاطمئنان إلى أن جودة المعايير والأسس السليمة هي التي تمنحك استحقاق دخول "الأردنية" وليس أي اعتبارات فرعية أخرى.
وقدم المجالي رسالة لطلبة الجامعة دعاهم فيها إلى استغلال سنوات دراستهم الأربع، فالجامعة كما يرى ضيفنا تجمع كل أنواع المعرفة التي يمكن أن يحصلها الطالب مجتمعة في مكان واحد، وفي هذا دعوة صريحة إلى ضرورة التفاعل بين طلبة الكليات المتعددة في الجامعة، فلا بد لجميع الطلبة من الذهاب إلى المكتبة؛ لأنها المكان الحقيقي لحالة التفاعل التي تخلقها الجامعات ونطمح أن تسود فيها، كما أن اجتماعهم في المطعم على لقمة يتقاسمونها ملتقى، والجلوس على المقاعد بين أشجار السرور وتجاذب أطراف الحديث باختلاف موضوعاته ملتقى، فالجامعة ليست ورقة وامتحانا، ولا ينبغي أن تنحصر في هذا المفهوم الضيق الذي لا يخرج إلا طلبة متعلمين غير مثقفين.
وتحقيق كل ما سبق من شأنه أن يؤدي إلى انسجام حقيقي يعزز حالة من التلاحم ننتهي عندها من سيطرة أفكار رجعية في انشغال الطلبة بانتماءات فرعية ضيقة، ودفاعهم عن ولاءات لا تغني ولا تسمن من شيء، ويسهم في صنع حالة من الحب المتبادل يصل إلى تحويل الجامعة إلى كتلة إنسانية واحدة تجعلها مجتمعا علميا وثقافيا مترابطا، دون أن ينحصر فكر الطلبة بتحصيل علامات لا تعدو أن تكون مقياسا واحدا في تقييم الطلبة، وهو في نظر المجالي مقياس غير مضبوط لأن في العقل ملكات متعددة وكثيرة لا يصح أن نختصرها في مقدار العلامة التي يحصلها الطلبة بتأدية امتحان وإجابة أسئلة بوجهات نظر مختلفة.
وهنا نرسخ في فكر الطلبة أن قدومهم للجامعة هو لتحصيل العلم والمعرفة لا لتحصيل أكبر قدر من العلامات التي لا تصنع منه إنسانا مؤهلا وقادرا على خوض غمار الحياة التي تنتظره بعد التخرج.
حب المجالي للأردنية بات سرا علنيا، إلا أنها لم تبخل عليه فبادلته حبا بحب، ووفاء بوفاء حين منحته الدكتوراه الفخرية في العلوم الإدارية، وما زالت سيرة إدارته العطرة للجامعة الأردنية طوال أربعة عشر عاما مدار حديث مريدي "الأردنية" ومحبيها.