تمثل مرحلة الدراسة الثانوية مفصلا حياتيا مؤثرا بحياة كل منا خصوص لمن يعشق ارتداء ثوب الطموح وامتلاكه، وحاضرها اليوم بسبب تعديلات أسس الحياة أنها شهادة محو الأمية الأولى بصورتها البسيطة بعد أن كانت معيار الأداء والوظيفة، ولكن ظروفها قد تطورت وتغيرت كحال الانتفاضة التي عصفت بضروب المجتمع حُكما حتى لا يُفَقَّط بين دول العالم الثالث، وعُرفاً بنهاية الدراسة الثانوية هناك امتحان شامل (التوجيهي) على مستوى الوطن بدرجة متفاوتة من العدالة منذ البدايات والمعدل النهائي يمثل المؤشر المؤثر بمستقبل الطالب بتحديد هوية المهنة المستقبلية باعتباره مفتاح بوابة العالم الجامعي، مسرح سباق وصراع وتنافس يخلو من النزاهة أحيانا بسبب الظروف البيئية ولكنه الأساس للمرور من بوابة العبور للنفق الجامعي لكليات الجامعة، فالسنة الأخيرة من هذه الفترة الزمنية لها حساسية خاصة باعتبارها تمثل عامل ضغط نفسي على كلا طرفي المعادلة؛ العائلة والطالب بسبب تحكمها بمصير الطالب، لتصبح أجواء المنزل ملبدة وملغومة يمنع معها العصبية والصوت مع فرضية القبول بمبررات التقصير دون قناعة بالأمر، وهي المرحلة الفعمرية التي تعلن اكتمال النضوج الفسيولوجي للفرد تَشعِر الإبن برجولته والبنت بأنوثتها وقد كانت هذه المرحلة من حياتي هي الأصعب على الاطلاق لضبابية بسقف الطموح وتداخل بين الواقع والأحلام ولكن الصبر والعزيمة والتشجيع تكفلوا وتضامنوا بتأمين المسيرة حيث رسى القارب على شواطىء غدير الأمل بعد ابحار طويل وانتظاراً مُذِلْ ورحلة عذاب لقبول جامعي اختلطت أوراقه بسبب الظروف السياسية العربية، خنجرٌ قتل الإرادة للشعوب. انتقالنا لمبنى مدرسة جديدة في حي آخر من أحياء مدينة الحصن بعيدة عن المنزل وما ترتب على ذلك من إعادة ترتيب الأولويات كان سببا كفيلا لخلط أوراق الطموح وللفترة الزمنية كاملة والممتدة لثلاث سنوات حيث ترتب على ذلك الصحيان المبكر استعدادا للذهاب، وربما عدم وجود تلفاز بالمنزل في تلك الفترة قد شكل نقطة إصرار ايجابية على التحصيل العلمي، فأشقائي الأكبر سنا على مقاعد الدراسة وهم القدوة والشمعة التي تزيل ظلام طريقنا؛ شقيقي الأكبر (بكر العائلة) كريم ويدرس الطب البشري بجامعة القاهرة، شقيقي الثاني أكرم بنفس الكلية والجامعة بفارق زمني بسيط، شقيقتي إكرام وتدرس الرياضيات، وأنا الرابع بالترتيب العائلي وهناك أشقائي الأصغر مني عمراً؛ أمجد وغدير، وجميعنا يقدر ويدرك الوضع المادي للعائلة التي أصر قبطانها (الوالدين) بقدرتهم على تدبير الأمور بما يساعد تحقيق الأحلام، إضافة لوجود مشاكل تقنية بالمدرسة بحد ذاتها، فقد مرت سنوات الاستعداد (الأول والثاني الثانوي) للسنة النهائية ببطء ودرجة من التساهل والمشاغبة التي لم تخلُ من المنافسة الشديدة على المرتبة الأولى حتى بحصة الرياضة التي بدأنا نمارس فيها الجانب الأكاديمي من قراءة مادة للامتحان فيها، ومنها حسب ما أذكر مبادىء الاسعافات الأولية وطريقة التعامل مع اصابات الحروق والكسور والاصابات الرياضية بمختلف مسمياتها، كذلك الأسس والقوانين الناظمة لمختلف الألعاب الرياضية؛ كرة القدم، كرة السلة، كرة اليد، كرة الطائرة، أنواع الجمباز والسباقات، وهنا أسجل التنافس الشريف على التحصيل بين جميع طلاب الصف بدون استثناء بل وهناك صراع واقعي غير مدون أو معلن مع طالبات مدرسة الإناث لا يخلو من الغيرة كفطرة فرضت نفسها شجيرة غُرست ببيئة علمية تحصيلية وارتوت باجتهاد معلن وخفي على مستوى الفرد والمجموعة لأبناء المجتمع الريفي الذي يدرك أن طريق العلم هي الطريق اليتيمة لتحقيق الأحلام، وربما تميزت هذه الفترة الدراسية بضرورة التكيف مع الواقع الجديد المغلف بالاحباط لعدم وجود طاقم تدريسي متكامل في المدرسة، وأذكر حتى الساعة أن من درسني مادة اللغة الانجليزية في الصف الثاني ثانوي هو المدرس لمادة الاجتماعيات في الصف الأول الثانوي، فقد كانت السياسة التربوية في تلك الفترة بإعطاء أولوية الشواغر التعليمية لمدارس المدينة (القصبة) أولاً، وكان تعيين المعلمين الجدد حديثي التخرج من الجامعة بمدارس الضواحي والقرى لاكتساب الخبرة الكافية والقفز عن حاجز الرهبة بواقع الحياة العملية وهي السياسة المعتمدة لدى أصحاب القرار، فما أن يصبح المعلم الحديث بخبرة مصقولة وقادر على ضبط الحصة الصفية ومتمكنا من المادة التعليمية ومنسجما مع الطلبة لينقل لمدارس المدينة ضمن سياسة بعيدة عن أسسس العدالة؛ فإما لا يعوض لفترة زمنية تطول وتقصر حسب الظروف والمتوفر أو يستبدل بخريج جديد لنبدأ كطلبة المشوار من جديد ميدان تجارب وكسب ثقة ومهارات تمهيدا للخطوة التالية، نضحي قربانا للآخرين. مثلت سنة التوجيهي 1977/1976 واحدة من أطول السنوات عمرا ليس بعدد أيامها المطلق بل بأحداثها المؤثرة التي أدخلتنا جميعا بعاصفة من خلط الواقع الذي صدم الأحلام وأغرقها بسيل من ضبابية المستقبل بالنسبة لنا بالعديد من العقبات وكل واحدة كفيلة بتفريز ميزان العادلة وتقليم اجتهاد الطلبة الأذكياء لترجيح كفة أبناء الميسورين والمدن؛ فقد تغيرت المناهج الدراسية للفرع العلمي بقرار تربوي متواضع ينفذ بأحكامه وخصوصا بمادة اللغة الانجليزية والفيزياء، عدم وجود معلمين في مدارسنا الريفية والقروية للكثير من المواد وأهمها اللغة الانجليزية والفيزياء والمواد العلمية الأخرى، وجود معلم للغة العربية نُقل حديثا لمدرستنا وهو حاصل على درجة الماجيستير بالعلوم التربوية بعد بكالوريوس اللغة العربية، تغيير ثلاثة مدراء للمدرسة بسنة واحدة ولكل منهم حرصه وفلسفته الخاصة، بُعد المسافة التي نسيرها مشيا على الأقدام بين المنزل والمدرسة وهي مقدرة بحدود أربعة كيلومترات حيث كان يرافقني ابن عمي طبيب الأسنان جهاد والذي كان يصغرني بسنة دراسية واحدة ليحمل لي حافظة الكتب من المكتبة المتوسطة للبلدة حتى المدرسة في مشوار الذهاب بعد أن أكون قد حملت له حافظته من المنزل للمكتبة، عقد تعاون واحترام بين أبناء العمومة حيث كنت أمارس طقوس شراء جريدة الرأي بقرش ونصف من مصروفي الشخصي وأقرأها بحثا عن مقالة أو خاطرة أرسلتها بالبريد تشكل درجة تعزيز على الاجتهاد وفرحة يصعب وصفها، وجود تنافس رهيب بدرجة الغيرة بين الطلبة في الفرع العلمي ليس على المراتب الأولى بل على المرتبة الأولى تحديداً، جميعنا مجتهدون، منافسة وواقع حرمنا من الاحتفال بالأعياد أو المشاركة بالمناسبات بل وهناك تنافس من نوع آخر وأكثر شراسة مع طالبات الفرع العلمي في ثانوية الاناث بسبب التشابه الكبير والتماثل في الظروف، حيث يحاول كل منا الاحتفاظ بسرية درجة فهمه وتحصيله أو الافصاح بمعلومة قد تميزه وتمنحه علامة إضافية في الامتحان، وأخيرا وللتذكير بأنها السنة الأخيرة التي تقدمنا فيها لامتحان الثانوية العامة لمرة واحدة في نهاية العام بظروفها المتجددة حسب تعليمات التقدم للامتحان للثانوية العامة المعتمد من قبل.