برحيل النحوي واللغوي نهاد الموسى (1942-2022)، خسر الدرس الجامعي، الأردني والعربي، قامة علمية، وأستاذاً حمل همّ قضية الفصحى ودافع عنها. أستاذ يتجاوز خصومات العلماء، ملحّ في متابعة طلابه، وفي الوقوف معهم على عِلّات اللغة، وفي بناء فريقه العلمي. هو عالمٌ يعترف بالإخفاق بالروحيّة نفسها التي يذكّر بها النجاح. هو من آخر أصحاب المشاريع الفكرية والعلمية في الجامعات العربية، وفوق ذلك، كان رجلاً كريماً، نديّ الروح، محباً للحياة.
تنقل أستاذ النحو واللسانيات العربية ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية، نهاد الموسى، بين عدة جامعات، لكنه لم يفرّط بـ "الأردنية". ومع أنه يعترف بأن الذين غادروها منذ تأسيسها كُثر، إلا أنه يرى أن من بقوا دونما تفكير في الخروج استطاعوا الاعتناء بمشاريعهم أكثر، هذا على الرغم من أن بعض المغادرين حملوا معهم مشاريع فكرية أبقوا عليها وطوّروها.
ولد الموسى في بلدة العباسية (13 كم شرق يافا) عام 1942، وهو لم يكن يُفصّل كثيراً في الحديث عن ذاكرته المدرسية الأولى، لكنه حصرها بين القرية والمخيم، وللمخيمات وجعها وتحدّيها عند النخبة المثقفة الفلسطينية. كانت دراسته الجامعية الأولى في دمشق التي تخرّج منها عام 1963، والماجستير في جامعة القاهرة عام 1966 في رسالة بعنوان:" النحت في اللغة العربية"، وتحصّل على الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1969، في رسالة عن أحد أهم روات الشعر العربي وبعنوان: "أبو عبيدة معمر بن مثنى 109- 210 للهجرة". وفي ذاك العام، التحق بالجامعة الأردنية. وحتّى تقاعده منها عام 2012، وحتى وفاته أخيراً، ظلّت العربية تشغله، خمسة عقود، محدّداً هدفه بقضية النحو وتصحيح اللسان العربي، وإحلال الفصحى في العالم العربي محلّ العامية، قضية ومهمة تطوعت مجامع اللغة العربية للدفاع عنها وتبنّيها، لكن المحزن أن هذا الطود لم يحظ بعضوية مجمع اللغة العربية في الأردن، وكيف يصير ذلك، والموسى كان قد زاول عمليّة نقدية على رئيس المجمع الذي أطال البقاء فيه، الراحل عبد الكريم خليفة، وفي الدول التي تحترم الحريات الأكاديمية يقدر الأستاذ طلابه حين ينقدونه، لكن عندنا في عالمنا العربي يعاقبونهم بالإقصاء، فيفوز بالغنيمة كل مفلس.
كان نهاد الموسى يرى أن مجتمع المعرفة في الجامعات العربية يعيش حالة "أقرب إلى الفصال منه إلى التواصل"
من أجل ذلك، انبرى الموسى منذ 1973 للمساهمة في تأليف وإعداد مناهج قواعد النحو واللغة، أردنياً بالشراكة مع علي أبو هلالة، ولاحقاً مع محمود السمرة، وفي أكثر من قُطر عربي، حيث وضع مناهج سلطنة عُمان، وبجانب ذلك كان حماسياً ملهماً للطلاب، ومعتكفاً على التآليف الرصينة. إنه السبب الذي دعا يوماً أستاذه عبد الرحمن ياغي إلى أن ينصحه، بعد جدلٍ مستفيض، "إلى الترافق في أخذ القضايا العملية، وعلى رأسها مسألة الفصيح العربي". لكنه لم يكن يلين بسهولة، فقد ظلّ على حلمه الذي غادر الدنيا وهو لا يزال يعتقده قريباً، رغم رياح العولمة ومهدّدات هوية الأمة، حلم إشاعة الفصيح بدل العاميّ. هذا كله مع سيرة تدريسية جليلة النبت وارفة معطاءة، ومع سجل عضويات علمية ومؤلفات جاوزت المائة بين كتاب ومقال وتحقيق علمي.
كان نهاد الموسى مجمعاً من العلماء في عالم، يرى أن مجتمع المعرفة في الجامعات العربية يعيش حالة "أقرب إلى الفصال منه إلى التواصل". وهذا برأيه "ما أفرز خطوطاً متوازية بين الزملاء، في الجامعة الأردنية، بالحساسية تجعل كل واحد يتحرّى منطقة اللامساس". كان أبو إياد غير مبالٍ بزحف زملائه على الظهور في المجتمع، فأكّد فرادته في مجتمع الجامعة، حافظاً إرث الكبار ممن علموا فيها عند التأسيس، وكلّ الذين أحبهم وغادروا صاروا جزءاً من صيرورته الوجدانية، يقول: "هناك من أحمل لهم ذكريات جميلة من أبناء التأسيس في زمنٍ كانت فيه الجامعة ملاذاً جاذباً في بداياتها. يومها تلقاها الناس في دهشة المفاجأة؛ لأنها كانت مدهشة بجذب عنوانها، وكل ما يتعلق بها وبأولئك الأوائل الذين أرسوا القيم الجامعية".
النحوي الفطن، رجل الدعوة للفصيح، خلال سيرته العلمية أستاذاً مساعداً ومشاركاً وأستاذاً، رفد المكتبة العربية بمؤلفاتٍ غنيةٍ مجدّدة، إضافة إلى البحوث العلمية المتخصّصة والمقالات المعرفية، فضلاً عن تجربته العميقة والثرية خبيراً في تطوير مناهج اللغة في أكثر من دولة عربية ولدى منظمة اليونسكو. كان يشدّد على أهمية التوازن في عمل الأستاذ الجامعي، بين وظيفة التدريس والمهام الأخرى، وظلّ يعتقد أنه حاول دوماً الإبقاء على سيرة الباحث والمدرّس، حيث يقول: "أمسكت بخيط تجربة التدريس، لأن البحث يفتح الأسئلة أمامي، متجاوزاً عن كل التقاطعات التي تتعلق بالإدارة". غير أنه يعترف بأنه "لم يكن ذلك يسيراً"، إذ لا بدّ أن تنعكس على المرء التجاذبات الحياتية وحساسيتها، لكن الرسالة الأهم هي مشروعي المعرفي، فهو الأبقى".
لم ينكر نهاد الموسى أن ثمة ظروفاً صعبة يكون أستاذ الجامعة عرضةً لها، خصوصاً في مجتمع جامعي يحتضن الأشخاص وفقاً للأمزجة والأهواء المستترة
ومع أن الراحل كان يتمتع بحسّ "بحثي" سابر لعميق الظواهر، ورغم أنه بنى سمعةً علمية أهلته لأن يكون خبيراً دولياً وأستاذاً زائراً في جامعات عدة: القاهرة، نيويورك، هاواي، توبنجتن، إرلفجين، بون، دمشق، تكساس، الإمارات العربية، الملك سعود، الكويت والبصرة وبير زيت وغيرها، إلا أن الموسى يعتقد أن ذلك الإنجاز وتلك السمعة لا يكمن سببهما فقط في الوازع الذي حرّكه ذاتياً، بل إنه، بشكل عام، كان يقدّر جانب الثقة بالنفس، وهي برأيه ثقة بالكفاءات الأردنية التي تميّزت بالانضباط والمثابرة، إضافة إلى المستوى الذي بناه الأردن في حقل التعليم. وكان بذلك الرأي يفخر بالمنجز المعرفي الأردني، ويرجع السبب في تفوق كثيرين خارج الأردن إلى "الثقة بما بناه الأردن كدولة في حياة أفراده".
ولم يكن رحمه الله ينكر أن ثمة ظروفاً صعبة يكون أستاذ الجامعة عرضةً لها، خصوصاً في مجتمع جامعي يحتضن الأشخاص وفقاً للأمزجة والأهواء المستترة. لكن هذه الظرفية لم تحُل بين الرجل والتفاؤل بمستقبل الجامعة الأردنية التي لم يكن يخفي عدم رضاه أحياناً عما يجري أو جرى لها، فيتشهد على واقع الأمر بقول الشاعر: أريك الرضا ولو أخفت النفس خاليا/ فلا أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
عادة ما كان الموسى يوصف بأنه صلبٌ في التدريس، محبٌّ لبني قومه، لكنه كان موضوعياً في تقييم الطلبة، وأبعد ما يكون عن المجاملات، ولا يأبه لشيءٍ في السجال العلمي، وكان حريصاً على الحِجاج والجدل العلمي. ولذلك، دخل معركة الردود العلمية والحِجاج في سن مبكّرة، حدث ذلك حين نشر "مستدرك على كتاب الواضح للزبيدي" الذي حققه عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية لاحقاً، وهو ما لم يرق الأخير، كذلك فإنه واجه زملاءه في السعودية بتعليق على مسألة نحوية استخلصها من محاضر اجتماعات أعدّها زميل له في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود، وواجه آخرين بردودٍ علميةٍ حين كان يدرّس في الكويت، فلقي خصومة من لا يطيق مواقفه العلمية.
الزمن الأفضل عند الموسى كان البدايات، حين كان شاباً منهمكاً بالتدريس وإعداد المناهج في رام الله
يجد الموسى أن ذلك الجدل والردود الفكرية كانت من لزوميات الزمن الجامعي، زمن كان يتجادل فيه الأساتذة، ويتحاورون ويردّ بعضهم على بعض، قبل أن تدخل السلطة السياسية طبقة المثقفين في صراع الامتيازات والمواقع، لكن حالة النقد بعامة للمنجز العلمي والفكري غالباً ما كانت نادرة التفاعل بين أوساط المجتمع الجامعي. وصف الراحل تلك الحالة وذلك الزمان بقوله: "إن الجامعة لم تطوّر مناخاً تواصلياً، وما يزال يشتبك فيها الشخصي بالأكاديمي، ويظن بعضهم أنه عندما يتناول زميلٌ جهد زميل آخر بالنقد، بأنه يتقصّد له، أو يحمله على عوامل الإطراء".
الزمن الأفضل عند الموسى كان البدايات، حين كان شاباً منهمكاً بالتدريس وإعداد المناهج في رام الله. يصف تلك التجربة بأنها مفعمة بالحيوية، حيث "كان الزمان مقبلاً بين المحاضرة والبحث، وسعي لتطوير طريقة دراسة النحو والدخول في البحث العلمي واستثارة الأسئلة". وقد عُرف عن الراحل أنه كان يُقبل على المغامرة، فقد حدث أن غامر بكل ما تملك الأسرة لأجل أن يذهب إلى بريطانيا لتعلم اللغة الإنكليزية، ويذكر أنه قضى يوماً كاملاً في مقابر "بولمبرث"، وهو يقرأ ماذا يكتب الإنكليز على شواهد القبور.
محطة أخرى كان رحمه يرى أنها مهمة في حياته، حين ذهب زائراً إلى الولايات المتحدة مرتين بين عامي 1976-1977، لحضور حلقات علمية للاتصال بالعاملين في حقل الدراسات اللغوية. وآنذاك، كانت نظرية تشومسكي قد طفت في الأجواء العلمية، وهذا ما وفر للرجل محاولة لسد مطلب منهجي يتمثل بما يحتاج إليه في المستقبل.
كُلف الموسى أواخر أيامه الجامعية بصفته رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها من رئيس الجامعة الأردنية آنذاك، خالد الكركي، استعادة روح قسم اللغة العربية والعودة به إلى الزمن الأبهى، يقول: "المهمة تقلقني لإعادة الروح للقسم بمثل ما نشأ عليه، واستثمار أفضل ما لدى الزملاء والطلبة، وإنقاذ بعض البرامج مثل برنامج ماجستير تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها". وبعد عمادته كلية الآداب في الجامعة الأردنية، جاء الربيع العربي بزمن لم يقدر فيه من يكون خلفاً للسلف من الكبار أمثال ناصر الدين الأسد وفهمي جدعان وعبد الكريم غرايبه. وهذه حالة ضربت كل الجامعات العربية.
كان يرى أن المقالة يجب أن تأخذ الأكاديمي من عالم الأكاديميات إلى مستوى الناس البسطاء، لذا فهي تتطلب جهداً كثيراً
كتب الموسى المقالة الصحافية، ونشر في الكثير من الصحف والمجلات الثقافية العربية، ولكنه يرى أن المقالة يجب أن تأخذ الأكاديمي من عالم الأكاديميات إلى مستوى الناس البسطاء، لذا فهي تتطلب جهداً كثيراً، وهنا هو يأخذ على بعض الأكاديميين عدم عنايتهم بالإيجاز وتبسيط الأفكار حين يكونون في مواقع عامة، ويرى أن الانتقال من الأكاديمي إلى الثقافي مهمة ليست بالسهلة. وكانت آخر مهامه وأعماله مشاركته في الفريق العلمي المؤسس الذي بنى منهجية معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ذلك المعجم الذي كان حلماً طالما حدّث الموسى الناس عنه وتمنى تمامه، ويدعو إلى ضرورة إنجازه.
كان يحب العمل ضمن فرق علمية، لكنها كانت مهمة صعبة، يقول الراحل إنه حين كان يُشرف على عمل فريق، كان يصاب بخيبة أمل حين لا ينتهي المشروع إلى غير ما أراد، ويضيف: "أحياناً كان الفريق يخذلني في مواكبة التقدّم للمستوى الذي أطمح إليه". تلك التجربة كانت في أكثر من جامعة "لا أدري سببها هل يكمن في طوباويتي وطلب التمام، أم هي لقلة حيلةٍ في استخراج أفضل ما لدى الفريق". بيد أنه يطرح تفسيراً ممكناً آخر "لعله يعود لأني لا أطمئن كثيراً لمن يعملون معي، إنهم لا يحملون مثل قلقي على التمام، وإنهم أقرب إلى الاعتدال". كان صريحاً مع نفسه ومع الآخرين "لديّ تطرّف في التجرّد لأي مشروع، وهو تطرّف كان يطغى فيه انهماكي وانغماسي على خاصّ أمري، وأحياناً لم يكن المشروع يبلغ منتهاه، لقد اعتدت مثل هذه التجارب في الفشل".
بوفاة نهاد الموسى، أستاذ الأجيال في الجامعة الأردنية، طويت صفحة الكبار، وبقايا الرواد وأصحاب المشاريع الكبيرة، وأهل الحجاج، الذين خاضوا معركة المعرفة العربية، في مواجهة معارك الحياة الأخرى التي عاشها الأكاديميون العرب، وهي معارك: العيش والاقتصاد والسياسة والحرية، هي معركة للأسف انتصر فيها السياسي على الثقافي، ولكن الكبار من الأساتذة هم الخالدون في أروقة الجامعة الأردنية، ممن كانوا يمنحون الجامعة وقاراً وسمعة طيبة، وجعلوها مشعلاً من مشاعل التنوير والليبرالية والتغيير، أردنياً وعربياً.