بداية، لا تذهب عزيزي القارئ بعيداً إذ تقتصر العلاقة الوحيدة بين اللقاح والعرب على الاسم فقط. ولهذا سأحدثك بعض الشيء عن هذه التسمية التي تعبر عن الاعجاب والاحترام بل والمحبة من طرف واحد. ولكن قبل ذلك، دعني اشير إلى أن الدولة التي تعمل إحدى مؤسساتها العلمية (مركز الهندسة الوراثية والتقنية الحيوية) على تطوير لقاح عبد الله بالإضافة إلى أربعة لقاحات أخرى، نعم أربعة لقاحات أخرى، ضد كورونا! وهذه اللقاحات هي: سوبيرانا واحد وسوبيرانا اثنين ومامبيسا (وهذا قطرات تأخذ عبر الأنف!) وسوبيرانا (+). هذا ما يتم العمل عليه في دولة يزيد عدد سكانها قليلا عن 11 مليون نسمة وحجم ناتجها الوطني الاجمالي 100 مليار دولار امريكي تقريباً الذي بلغ ذروته هذه عام 2018 واسمها كوبا، إحدى دول أمريكا الوسطى.
وتعود تسمية أحد اللقاحات التي تعمل كوبا على تطويرها إلى المفكر والشاعر والصحفي خوسي جوليان مارتي بيريز (José Julián Martí Pérez) الذي قيل القليل جداً عنه وكتب ما هو أقل من ذلك، في ما أعلم، في وسائل الإعلام العربية التي تتحدث عادة عن كل من هب ودب وعمّن لا يرقى اهتمام أي منهم تجاه العالم العربي والحضارة الإسلامية إلى بعض ما بلغه خوسي مارتي. لهذا أظن أنه من حق هذا "المستشرق"، إذا جاز استخدام هذا التعبير، علينا أن نشير إليه وإن في عجالة وبعد زمن طويل.
لقد ولد خوسي مارتي عام 1853 وتوفاه الله وهو في الثانية والأربعين من عمره. ويقول العارفون به إنه في كل مجلد من المجلدات الثمانية والعشرين، دون استثناء، التي تشكل أعمال مارتي الكاملة يمكن للمرء أن يجد صفحات مخصصة لمواضيع عربية، أي أن اهتمام مارتي بالشأن العربي كان حاضراً في أعماله من أولها إلى أخرها. ولقد أظهر مارتي اهتماماً ملحوظاً بالعالم العربي منذ صغر سنه ولعله عبر عن ذلك في باكورة أعماله أي في قصيدته الدرامية المسماة "عبد الله" الذي أُختير عنوانها اسماً للقاح المذكورإحياءً لذكرى ذلك البطل القومي الكوبي ولموضوع القصيدة التي وجهها لأمته تعبيراً عن التزامه تجاه قضاياها. ولقد استلهم مارتي تلك القصيدة من مواقف عبد الله، ذلك المحارب النوبي المسلم في الصحراء الأفريقية، المعبرة بدورها عن التزام ذلك المحارب والشاب الرمز بقضايا أمته، بل إن مارتي ألف ديواناً شعرياً اسماه "اسماعيل الصغير" (Ismaelillo) وقصد به أبو العرب نبي الله اسماعيل بن ابراهيم خليل الرحمن عليهما السلام. ولقد أعجب مارتي بالحضارة العربية الإسلامية أيما اعجاب بعد أن اكتشف روائعها في الاندلس خلال مدة نفيه في اسبانيا، وذكر في كتاباته العديد من الشخصيات العربية مثل احمد عرابي ومحمد علي والسلطان الحسن وغيرهم، بل ويبدو أن مارتي تطلع أن يكون لكوبا مثلما كان الأمير عبد القادر الجزائري للجزائر لشدة اعجاب مارتي بالمقاومة الجزائرية للمستعمر وبذلك المجاهد العربي الجزائري الكبير.
ولكن ومن أجل فهم كيفية ظهور المشرق العربي في عالم خوسي مارتي الذي لا يبدو أنه قام بزيارته مع كثرة ترحاله، فإنه من الضروري فهم كيفية ظهور المشرق العربي ككل تاريخياً في كوبا في القرن التاسع عشر ومدى ارتباط ذلك بالأندلس أيضاً. وأميل إلى القول إلى أنه لم تسبق دراسة هذا الأمر، في ما أعلم، من المعنيين في تاريخ امريكا اللاتينية وأدبها المكتوب باللغة الاسبانية، وفي هذه تذكرة. وأختم بالقول لذلك المناضل الكوبي الكبير، الذي جعلنا يوماً محط اهتمامه بل واعجابه والذي رأى أن العرب شعب مميز عن غيره، عذراً سيدي لأننا لم نبادلك الاحترام والاعجاب بما يليق بمواقفك تجاهنا، وأعلم أن ما قلته هنا لا يساوي شيئاً أمام ما سطرته أنت عن العالم الذي كان على عهدك يُسمى العالم العربي والذي أصبح اليوم يسمى الشرق الأوسط وشمال أفريقياً، فلذكراك العطرة وللشعب الكوبي الصديق مني، نيابة عن كل عربي حر، كل الاحترام والتقدير.